بتاريخ 4 أيلول/سبتمبر، تلقى الإماراتيون ومواطنو دول الخليج الأخرى أنباء مقتل 60 جنديًا من قوات التحالف التي تقودها السعودية للتدخل في اليمن في هجوم صاروخي واحد قام به المتمردون الحوثيون. وارتفع عدد القتلى في وقت لاحق إلى 67: خمسة جنود من البحرين؛ و10 من السعودية؛ و52 من الإمارات العربية المتحدة، مما يمثل أكبر خسائر عسكرية في تاريخ البلاد. في حين أنّ عدد القتلى قد يبدو منخفضًا مقارنة بعدد الوفيات اليمنية المتزايدة في الحرب الأهلية بالوكالة التي تدور في البلاد، فهي تمثل خسائر كبيرة للملكيات الخليجية الغنية الصغيرة. وكشف ردّ الفعل الأولي الذي تمت المشاركة به من خلال الشهادات والتعازي عبر وسائل التواصل الاجتماعي أنّ الجمهور غير معتاد على التضحية بأبنائه في صراعات خارجية.
الخيار العسكري
هذا الحادث مهم لأنه يبلور تحولين مترابطين جاريين، بدرجات متفاوتة، في مختلف أنحاء دول الخليج العربية. الأول هو استعداد دول الخليج المتزايد لاستعراض القوة العسكرية لتحقيق مصالحها في المنطقة، والقيام بذلك بشكل أكثر استقلالية عن الولايات المتحدة حليفتها. ويجري حاليًا استكمال الاستراتيجية السعودية القاضية بشراء النفوذ الدولي – التي أطلق عليها المحلل السياسي غريغوري غوز اسم “الريال السياسي” – بالقوة العسكرية، وبالتنسيق في كثير من الأحيان مع الحلفاء في الخليج. وتشكل العملية في اليمن بقيادة السعودية، والتي تحمل اسم “استعادة الأمل”، الإشارة الأكثر دلالة عن هذا الاتجاه الواضح الآن. لكن لهذه العملية سوابق وهي تدخل مجلس التعاون الخليجي بقيادة السعودية لدعم النظام الملكي البحريني في العام 2011، وقد تضمنت العملية في البداية ألف فرد من قوات الحرس الوطني من المملكة و500 شرطي إماراتي تحت إشراف قوات درع الجزيرة الخليجية. وفي وقت لاحق، قامت قطر والإمارات العربية المتحدة بشنّ عمليات جوية لدعم المتمردين والفصائل في ليبيا.
تترتب تحديات على طموح دول الخليج بصياغة النظام الإقليمي من خلال الالتزام بقوات عسكرية. ومتطلبات حملة اليمن تستنذف قدرات دول الخليج، التي تواجه قيودًا لناحية مجموعة المجندين الصغيرة نسبيًا وخبرة قواتها العسكرية في العمليات البرية واسعة النطاق. ويتمثل أحد الحلول بضمّ دول عربية أخرى ذات عدد أكبر من السكان وأغلبية سنية إلى التحالف. وهكذا، فيما تتحول الحملة الجوية في اليمن إلى هجوم بري وشيك يستهدف محيط صنعاء وربما العاصمة نفسها، يجري تعزيز القوات التي تتألف بغالبيتها من جنود إماراتيين وسعوديين ويمنيين متحالفين بقوات من دولة قطر الخليجية وأيضًا من السودان، التي تمّ الاتفاق معها حديثًا. وكان البرلمان الباكستاني قد رفض محاولة سابقة من المملكة العربية السعودية للحصول على التزامات قوات من البلاد.
ومع ذلك، تبدو دول الخليج – لا سيما السعودية والإمارات وقطر – مصممة على تعزيز قدراتها العسكرية سعيًا لتحقيق أهدافها الاستراتيجية. ومن شأن ذلك أن يشكّل ضغطًا أكبر على الميزانيات الوطنية، وعلى المواطنين الخليجيين أيضًا في نهاية المطاف. ووفقًا للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، زادت السعودية نفقاتها العسكرية بنسبة 21 بالمئة في العام 2014. وفي العام عينه، أخذت دولة الإمارات وقطر خطوة غير مسبوقة بالبدء بالخدمة العسكرية الإلزامية لمواطنيها. ووافق البرلمان الكويتي أيضًا على إعادة التجنيد العسكري – المعلّق التنفيذ منذ العام 2001 – ومن المقرر أن يدخل القرار حيّز التنفيذ في العام 2017.
حسّ الوطنية الخليجي الجديد
يشير اعتماد قوانين الخدمة العسكرية الوطنية التي تتطلب تجنيدًا إجباريًا إلى تحول مهم ثانٍ يجري في دول الخليج، ويتم تبيانه من خلال تدابير لتبني مفاهيم أقوى للأمة وفرض مطالب أكبر على المواطنين. وفي حين قد لا يكون المجندون الجدد مستعدين على الفور ليتم إرسالهم إلى معارك خارجية، سيوفرون مخزونًا من الدعم – المادي والمعنوي – للقوات العسكرية ومهمتهم الوطنية. ويشير مشروع الاستراتيجية الإماراتية إلى رؤية أوسع لدور المجندين المتمثل “بجمع الجوانب الاقتصادية والبيئية والثقافية وغيرها، ما يضمن استقرار المجتمع ونموه وازدهاره.”
لم تكن دول الخليج تاريخيًا متحمسة للترويج للقومية، لأنها تتفق بصعوبة مع النظام الملكي. وبدلًا من ذلك، اعتمدت إمارات وممالك الخليج أكثر على العضوية الاقتصادية لدولة الرفاه، التي يتمّ عرضها كمساهمة خيرية وأبوية من العائلة المالكة. وفي السعودية، تشكلت الهوية الوطنية من خلال الالتزام بالعقيدة السلفية التوحيدية واحترام أعرافها الاجتماعية الصارمة التي يطبقها مسؤولون دينيون تابعون للدولة.
ولكن في العقد الماضي أو نحو ذلك، بدأ حكام الخليج يدركون الحاجة إلى منصة أقوى لتحقيق التكامل الوطني الذي يتخطى المواطنة الاقتصادية فحسب. أصول هذا التحول معقدة، ولكن يبدو أنها متجذرة في دينامياتين على الأقل: اقتصادية وسياسية.
وقد أطلق تزايد السكان والاقتصادات المتنوعة عصرًا من خفض الإعانات وتوسع القطاع الخاص. ويقوّض تآكل الخدمات العامة هذا، جنبًا إلى جنب مع عدم قدرة القطاع العام على التوسع لتلبية متطلبات سوق العمل، قدرة دولة الرفاه على توليد الامتنان والولاء. ويرفع هذا أيضًا من الطلب على مواطنين أفضل تدريبًا وأكثر استعدادًا للمغامرة.
في ظلّ غياب هويات وطنية قوية، لبّت الحركات الإسلامية رغبة كثيرين في المشاركة السياسية والانتماء. ونمت مخاوف الدولة من نطاق النفوذ العابر للحدود لجماعة “الإخوان المسلمين”، والحركات الشعبوية السلفية، والشبكات الدينية الشيعية المسيسة، وكذلك من انهيار الدول المجاورة، والتحديات المتزايدة بسبب الإصلاحيين الإسلاميين والجهاديين. وقد حفّزت الحاجة إلى ربط المواطنين بطريقة أكثر إقناعًا بالدولة وقيادتها ممالك الخليج على تجربة أشكال جديدة من بناء الدولة وغرس حبّ الوطن.
يأتي إطلاق الخدمة العسكرية الوطنية مباشرة عند تقاطع الطموح الإقليمي والتكامل الوطني. وقد روّجت السلطات الحكومية في دولة الإمارات وقطر لهذه الخدمة على أنها وسيلة “لحماية الوطن والحفاظ على استقلاله،” و”لغرس قيم الولاء والتضحية،” والمساعدة على تحقيق “مواطنين مثاليين.” في قطر، تشتمل سياسة التجنيد على الرجال الذين تتراوح أعمارهم بين 18 و35 عامًا ويتدربون مع القوات المسلحة لمدة ثلاثة إلى أربعة أشهر. ويخدم الإماراتيون لفترة أطول تتراوح بين تسعة أشهر وسنتين، مع منح الإناث فرصة الخدمة الاختيارية. وبعد فترة الخدمة الأولية، يتم تعيين المجندين من كلا البلدين في وحدات مختلفة من القوات المسلحة، ثم ينضمون إلى قوات الاحتياط ويصبح بالإمكان دعوتهم إلى المعركة.
أظهر فيلم وثائقي حول الخدمة الوطنية في الإمارات بثته قناة ناشيونال جيوغرافيك أبوظبي المجندين يتعلمون الانضباط والتمارين، وذلك من خلال النظافة الشخصية والترتيب والتدريبات العسكرية والتدريب على الأسلحة الأساسية. وصوّر الفيلم أيضًا تحولاتهم الشخصية، وتغلبهم على الضعف البدني والذهني، والترابط مع الزملاء المجندين من خلفيات اجتماعية واقتصادية مختلفة، وتعميق احترامهم للجيش وحب الوطن.
وعود ومطبات
لقي خبر الخسائر العسكرية في اليمن حزنًا عامًا، ولكن أيضًا عزمًا رسميًا وحملة شعبية لتكريم الضحايا. وفي البلدان الثلاثة المتضررة، اعتبر الجنود الذين سقطوا “شهداء.” وأعلنت الإمارات ثلاثة أيام من الحداد الرسمي، ووجدت منظمات مختلفة مثل الأندية الأدبية والجمعيات النسائية أساليب لمدح الأبطال الوطنيين الجدد ودعم أسرهم. وتبيّن عناصر الردّ الأكثر مؤسسية في دولة الإمارات بوضوح عن جهد مدروس – تمّ الاعتراف به بصراحة – لتكريم الذين سقطوا والارتقاء بهم بطريقة تعزز الهوية الوطنية والوحدة الوطنية. وسيوفّر الاعتراف السنوي بيوم الشهداء والتخطيط لبناء متحف وأرشيف الشهيد سبيلًا دائمًا للتذكر وتعزيز الشرف والوطنية في آنٍ معًا.
في بعض دول الخليج، تواجه عمليات التآزر المحتملة بين الطموحات الإقليمية والصورة الوطنية تعقيدات أكبر. ففي السعودية والبحرين، ستؤدي سياسات الحد من مشاركة المواطنين الشيعة في قوات الأمن إلى إدانة التجنيد الإجباري على الأرجح. وقد تهدد التدخلات الأجنبية تفاقم هذه الانقسامات الطائفية والاجتماعية الأخرى، وبخاصة لدرجة أنّه يتم تصوير السياسات الإقليمية كتشكيل لـ”جبهة سنية” بمواجهة ايران والميليشيات الشيعية التابعة لها.
وتبقى أيضًا مسائل المحاسبة العامة قائمة. ففي أعقاب سقوط الضحايا، بذل المسؤولون الإماراتيون وقادة الرأي جهودًا متضافرة لشرح المشاركة الإماراتية في الحملة العسكرية التي تقودها السعودية في اليمن وتبريرها للجمهور. ومع ذلك، في حين يبدو أنّ الحملة تحظى بدعم شعبي كبير في بعض الدول، بما فيها السعودية، يبقى التسامح مع الانتقاد العلني للاستراتيجية أو تنفيذها محدودًا للغاية في الكثير من الدول. وقد حصلت عمليات اعتقال بسبب انتقادات للمشاركة الخليجية في التدخّل في اليمن في كلّ من البحرين والكويت. وبعد سقوط الضحايا العسكريين مؤخرًا، أصدرت الإمارات مذكرة اعتقال بحق شخص يعمّم قائمة بأسماء الجنود الذين يُزعم أنهم قتلوا في اليمن. وفي حين غطت وسائل الإعلام زيارات التعزية التي قام بها القادة الإماراتيون لعائلات الجنود الذين سقطوا في اليمن على نطاق واسع، لم تصدر السلطات الإماراتية أي قائمة رسمية بأسماء الضحايا.
تمثّل الحملة التي تقودها السعودية في اليمن عاملًا حاسمًا في تأكيد الذات العسكرية الخليجية والاستقلال الاستراتيجي المتنامي. ولا تقلّ تداعياتها في الوطن أهمية لناحية إعادة تشكيل العلاقة بين الأمة والجندي – والمواطن في نهاية المطاف. قيادة الدول الخليجية المشاركة عازمة على استخدام نيران الحرب لصهر رابطة وطنية أقوى، مع أنها لا ترحب بالمعارضة كما هو الحال في معظم التوجهات الوطنية.