هل تحاول الولايات المتحدة تغيير سلوك الجمهورية الإسلامية، أم أنها تتّبع سياسة تغيير النظام في إيران؟ لقد تصارعت قيادات الأحزاب في طهران مع هذا السؤال منذ ثورة 1979 وتأسيس الجمهورية الإسلامية. في ضوء “حملة الضغوطات القصوى” لإدارة الرئيس دونالد تامب، والتقارير التي تشير إلى خطط طارئة لنشر 120,000 جندي في الشرق الأوسط، أصبح السؤال أكثر إلحاحًا للنظام في طهران.
وبناء على المعلومات المنشورة باللغة الفارسية، لا يبدو أن الرئيس الإيراني حسن روحاني، والمرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، وفيلق الحرس الثوري الإسلامي لديهم تصوراتهم الخاصة لسياسة إدارة ترامب في إيران فحسب، وإنما يحاولون أيضًا بشكل جاد الاستفادة من تلك السياسة في كفاحهم من أجل السلطة.
توفّر دراسة للبيانات العامة وغيرها من ردود أفعال الأحزاب السياسية الإيرانية على الدبلوماسية القهرية لإدارة الرئيس السابق باراك أوباما والمكونات المختلفة لحملة الضغط القصوى لإدارة ترامب، رؤى مهمة حول تصوراتهم للتهديدات، واستراتيجيتهم لمواجهة ضغوطات واشنطن والمحافظة في الوقت نفسه على تفوقهم في الصراع على السلطة في إيران.
المرونة البطولية في مواجهة دبلوماسية أوباما القهرية
إدارة ترامب ليست أول من وظف الدبلوماسية القهرية ضد الجمهورية الإسلامية، فقد فعل ذلك أوباما أيضًا، وهو ما دفع روحاني وحكومته التكنوقراطية إلى محاولة التوصل إلى حل تفاوضي لبرنامج إيران النووي المثير للجدل. لم يكن يُنظر إلى مثل هذا الحل على أنه سيساعد روحاني على الوفاء بوعوده الانتخابية بإزالة نظام العقوبات الدولية وتحسين الظروف الاقتصادية للإيرانيين فحسب، وإنما كان ينتظر منه أيضًا حل الأزمة في العلاقات مع الولايات المتحدة، ما ساعد الحرس الثوري الإيراني على مر السنين في تعزيز سيطرته على الجمهورية الإسلامية.
وتحت ضغوط العقوبات الدولية القصوى ومواجهة احتمال الانهيار المالي، تمكن روحاني من إقناع خامنئي بإظهار “مرونة بطولية” ودعم علني لمفاوضي البرنامج النووي وإقرار خطة العمل المشتركة الشاملة (JCPOA)، أو صفقة إيران النووية.
وبصفته المحرك الرئيسي وراء البرنامج النووي الإيراني، ظهر الحرس الثوري الإيراني وكأنه الوصي على القنبلة النووية الإيرانية. ومع ذلك، اعترافًا بمشاكل إيران الاقتصادية الملحة، والتوقعات بالاستفادة من فتح الاقتصاد الإيراني أمام الاستثمارات الأجنبية المباشرة، لم يعترض الحرس الثوري الإيراني بشكل فعال على المفاوضات النووية أو نتائجها. رغم أن الحرس الثوري الإيراني لم يقر علنًا خطة العمل المشتركة الشاملة (JCPOA).
الصبر الاستراتيجي
لقد كان لإعلان إدارة ترامب في 8 أيار 2018 عن انسحاب الولايات المتحدة من الصفقة النووية، وإعادة فرض العقوبات الأمريكية تحت هدف معلن يتمثل في عقد “صفقة جديدة ودائمة” من شأنها أن تزيل “تهديد برنامج الصواريخ الباليستية الإيرانية؛ … ونشاطاتها الإرهابية في جميع أنحاء العالم؛ و… تهديداتها لمنطقة الشرق الأوسط قاطبة،” أثره على الأقطاب الثلاثة في إيران. لقد فقد روحاني والنخب التكنوقراطية في الجمهورية الإسلامية الذين استثمروا رأسمالهم السياسي في JCPOA، كل مصداقيتهم بعد انسحاب إدارة ترامب من الصفقة النووية. وقد تأثر خامنئي كذلك، ولأول مرة في حياته السياسية، اعترف بخطئه في المصادقة على المفاوضات النووية. أما من جهة أخرى، فلم يتأذَّ الحرس الثوري الإيراني الذي لم يصادق أبدًا بشكل علني على الصفقة النووية.
لكن الأقطاب الثلاثة هذه، على الرغم من تلفظها بتصريحات قاسية وأعمالها المسرحية المعادية للولايات المتحدة، إلا أنها أظهرت صبرًا استراتيجيًّا. في خطاب أمام الجمهور يوم 9 أيار 2018، اتهم خامنئي الولايات المتحدة بالبحث عن ذرائع مختلفة للإطاحة بالجمهورية الإسلامية وأمر الحكومة بالبقاء ملتزمة بالاتفاق النووي ولكن بالحصول على “ضمانات موثوقة من القوى الأوروبية”. وحذا روحاني حذوه على شاشة التلفزيون المباشر من خلال التأكيد على التزام إيران بالصفقة النووية، ولكنه أضاف أيضًا: “لقد أصدرتُ تعليماتي إلى منظمة الطاقة الذرية [الإيرانية] للتحضير لإعادة تنشيط التخصيب غير المقيد [لليورانيوم] في [مجال] الصناعة. في اليوم نفسه، هنأ اللواء محمد علي جعفري، قائد الحرس الثوري الإيراني آنذاك، الإيرانيين على انسحاب الولايات المتحدة من الصفقة النووية، وادعى أنه كان يعرف طوال هذه المدة أن واشنطن ليست جديرة بالثقة. ومع ذلك، وبدلاً من مطالبة إيران بالانسحاب من JCPOA، شدد جعفري على عدم استعداد إيران للتنازل عن ترسانتها من الصواريخ الباليستية وبرنامجها من أجل تلبية مطالب واشنطن الجديدة.
لقد أظهرت الجمهورية الإسلامية صبرًا استراتيجيًّا مماثلاً تجاه إسرائيل في سوريا. مع استقرار حكم نظام الرئيس بشار الأسد على أجزاء كبيرة من سوريا، أثارت محاولة الحرس الثوري الإيراني والميليشيات المتحالفة معه ضمان وجود دائم لهم في سوريا حملة قصف إسرائيلية متواصلة ضد مواقع الحلفاء الإيرانيين في ذلك البلد. ومع ذلك، فقد امتنعت إيران، مع استثناء واحد بارز، عن الرد على الهجمات الإسرائيلية، وعلى عكس الجنازات الحاشدة لقتلى الحرب ضد الدولة الإسلامية في العراق والشام، تحاول إيران جاهدة الإبقاء على خسائرها أمام جيش الدفاع الاسرائيلي طي الكتمان.
وعلى نحو مشابه، رد المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني على تصنيف وزارة الخارجية الأمريكية للحرس الثوري الإيراني بالإرهابي بإعلان القيادة المركزية الأمريكية منظمة إرهابية دون اتخاذ المزيد من الإجراءات. وتبع ذلك قرار واشنطن بعدم تجديد إعفاءات لمستوردي النفط الإيراني، وعدم السماح لإيران بتخصيب اليورانيوم، بل وفرض عقوبات على القطاع غير النفطي الإيراني، دون أن تتخذ طهران تدابير فعالة مضادة.
يبدو أن روحاني، وخامنئي، والحرس الثوري الإيراني كانوا ينتظرون إدارة ترامب على أمل ظهور إدارة جديدة بسياسة جديدة تجاه إيران.
المقاومة الفعالة
ومع ذلك، فقد وصل صبر طهران الاستراتيجي بغتةً إلى نهايته في أيار. في الخامس من أيار، ذكر مستشار الأمن القومي جون بولتون، في بيان مكتوب، أن الولايات المتحدة بصدد نشر مجموعة حاملة الطائرات الهجومية USS أبراهام لنكولن في الخليج ردًّا على “تصاعد المؤشرات والتحذيرات” وبهدف “إرسال رسالة واضحة لا لبس فيها للنظام الإيراني مفادها أن أي هجوم على مصالح الولايات المتحدة أو مصالح حلفائنا سوف يقابل بقوة لا هوادة فيها”.
في اليوم السابع من أيار، قام وزير الخارجية مايك بومبيو بإلغاء زيارته لبرلين فجأة وقام برحلة غير مبرمجة إلى العراق. لم يرد على أسئلة حول طبيعة “التصعيد” الإيراني بشكل محدد، ولكن الناطق باسم القيادة المركزية الأمريكية الكابتن بيل إيربان قال إن هناك “مؤشرات على أن القوات الإيرانية ووكلاءها يجرون استعدادات ربما لمهاجمة القوات الأمريكية في المنطقة”. وأفادت وكالة CNN عن مسؤولين أمريكيين لم تُسمهم، أن الولايات المتحدة قد تلقت معلومات استخبارية حول قيام إيران بنصب صواريخ باليستية قصيرة المدى على متن سُفنٍ لها في الخليج.
احتفظ الحرس الثوري الإيراني بالصمت حيال اتهامات محددة لإيران بتسليح سفنها بالصواريخ الباليستية، لكن العميد رمضان شريف، الناطق باسم الحرس الثوري الإيراني -متحدثًا من أنزَلي في شمال إيران- اتهم الولايات المتحدة بتنظيم “عملية نفسية واسعة النطاق ضد الأمة الإيرانية”، وتعهد بتحييد “مؤامرات أعداء الإسلام والثورة”.
في الثامن من أيار، قام روحاني -ردَّا على ضغوط الولايات المتحدة من الخارج، وبفعل الضغوطات التي من المرجح أنه يواجهها من الحرس الثوري الإيراني للرد على العقوبات الأمريكية- بالإعراب عن قرار حكومته “بتقليص بعض التزاماتها بموجب الاتفاق النووي”، وذلك في خطاب قام بتوجيهه لحكومات فرنسا، وبريطانيا، والصين، وألمانيا، وروسيا في الذكرى السنوية لانسحاب الولايات المتحدة من JCPOA.
في الثالث عشر من أيار، تم استهداف أربع سفن بالقرب من ميناء الفجيرة الاستراتيجي في الإمارات العربية المتحدة، فيما وصفته الإمارات العربية المتحدة بأنه “هجوم تخريبي”. ونقلت صحيفة “جافان” اليومية المقربة من الحرس الثوري الإيراني، عن محللين لبنانيين زعموا أن الهجمات ما هي إلا عمليات إسرائيلية زائفة في محاولة لإشعال حرب بين العرب والإيرانيين. ومع ذلك، يبدو أن الاحتمال الأكبر هو أن الهجمات كانت استعراض عضلات للحرس الثوري الإيراني ردًا على الهدف الأمريكي المعلن بتخفيض صادرات النفط الإيرانية إلى الصفر.
خطر الحرب
يؤكد القادة الأمريكيون والإيرانيون أنهم لا يسعون إلى الحرب. كان انفكاك الولايات المتحدة من الحروب في الشرق الأوسط أحد الموضوعات الرئيسية في حملة ترامب الانتخابية، والآن وبصفته رئيسًا، ربما يكون عازفًا عن إشعال حرب ضد إيران. ولدى نظام طهران، الذي يدرك تمامًا قوة الولايات المتحدة الهائلة، محاذير من البدء في حرب يعرف أنه سيخسرها.
ومع ذلك، فإن كلا البلدين قد يتوجهان صوب وضع يؤدي فيه سوء التقدير أو سوء الأحداث إلى خطر المواجهة العسكرية. إذا كان الحرس الثوري الإيراني مقتنعًا بأن إدارة ترامب تهدف إلى تحقيق الانهيار الاقتصادي للنظام بدلاً من السعي إلى غزو بري لإيران، وإذا كان حسابه للتوترات المتصاعدة على أنها تقوي من وضعه في الصراع الداخلي من أجل السلطة في إيران، ما يجعله يضع صبره الاستراتيجي جانبًا ويلجأ إلى سياسة المقاومة الفعالة، فإن ذلك سيزيد من خطر نشوب حرب غير مرغوب فيها.