يشير ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى هذه الحقبة باعتبارها الدولة السعودية الرابعة، فكم هو عميق التحول في المؤسسات والممارسات في أبنية الحكم والاقتصاد والمجتمع في السعودية. هناك أمثلةً دراماتيكية حديثة على عملية صنع القرار في الدولة السعودية الرابعة، حيث تعتبر القوة عاملاً أساسياً على الجبهة المحلية والساحة الدولية. إن احتجاز اثنين من كبار أفراد الأسرة الحاكمة وانهيار الاتفاق النفطي السعودي-الروسي يوضحان الديناميكيات السياسية الجديدة في ظل حكم محمد بن سلمان، حيث يتم تركيز عملية صنع السياسة، ويتم تشكيل السياسة الخارجية بناءً على تصورات قومية. يعكس هذان التحركان إعادة النظر في العقد الاجتماعي في السعودية، حيث تتم مشاركة المخاطر السياسية والاقتصادية بين كافة مكونات المجتمع السعودي.
ضبط الأسرة الحاكمة
أوردت عدة وكالات أنباء في الخامس من مارس/آذار عن اعتقال شقيق الملك أحمد بن عبد العزيز وابن أخيه وزير الداخلية السابق الذي كان وليًّا للعهد محمد بن نايف. لم تثبت الأحداث صحة التكهنات الأولية بأن الاعتقالات جاءت لمنع محاولة انقلاب. في حين أفادت التقارير بوجود عمليات اعتقال أوسع تركزت في دوائر المخابرات، شملت وزير الداخلية الحالي عبد العزيز بن سعود بن نايف ووالده، وهو شقيق الأمير نايف، وتم الإفراج عنهما بسرعة وتصويرهما وهما يستأنفان مهامهما الرسمية.
من الصعب أن نعرف على وجه اليقين الدافع وراء استمرار احتجاز الأميرين أحمد ومحمد بن نايف. لم يكن هناك اعتراف علني رسمي باعتقالهما. وذكرت مصادر قريبة من الأسرة الحاكمة أن الهدف من الاعتقالات كان إرسال “رسالة إلى أي شخص في الأسرة الحاكمة، يشعر بأنه محروم من الحقوق، مفادها: لا تتذمر وافعل ما تؤمر”. وأشار تقرير آخر في الجارديان إلى أن الاثنين ربما كانا يناقشان انضمام الأمير أحمد كرئيس لهيئة البيعة، وهي هيئة أنشأها الملك السابق عبد الله لمأسسة النقاشات داخل الأسرة الملكية بخصوص قادة المستقبل. والهيئة مسؤولة عن إعلان الدعوة لمبايعة ولي العهد ليصبح ملكًا إذا مات الملك أو أصبح عاجزًا.
وبصفتهما مرشحين رئيسيين من الجيل الأول والثاني على التوالي، لفت الأميران أحمد ومحمد بن نايف الانتباه كبديلين لولي العهد محمد بن سلمان من قبل الساخطين من أعضاء الأسرة الحاكمة والمواطنين الغاضبين من سياسات ولي العهد، وتخليه عن المعايير الملكية القائمة منذ زمن بعيد. في حين كانت هناك تقارير تفيد بأن الأمير أحمد كان واحدًا من ثلاثة أفراد من العائلة الحاكمة حجبوا الدعم داخل هيئة البيعة عن صعود محمد بن سلمان إلى ولاية العهد في عام 2017، لم يُعرف عن أي منهم طموحات للحكم، ولا يستطيعون تحمل الوسائل لتحقيق مثل هذه الطموحات. مع تعزيز السلطة المؤسساتية للدولة الآن داخل البلاط الملكي، فإن هيئة البيعة، بشكل شرعي، هي المؤسسة الوحيدة التي قد يكون لرأسمالها الاجتماعي التقليدي وزن.
كان أسلوب عمل محمد بن سلمان هو توقع أي معارضة محتملة والمضي قدمًا. وكان يسيطر، بلا هوادة، على الخطاب العام، وهو ما يحتم التأييد الشعبي لسياساته وحكمه، وخاصة في الأوقات الحرجة. يقال إن الاعتقالات تزامنت مع قرار آخر بالغ الأهمية -على المسرح الدولي– وله انعكاسات أعمق بكثير على محمد بن سلمان وأجندته الإصلاحية.
ضبط أسواق النفط
تساهم جائحة فيروس كورونا في تسريع عملية انهيار تاريخي في النشاط الاقتصادي، وتجفيف الطلب على الطاقة، التي تعد شريان الحياة لمُصدري النفط في الخليج. كان اجتماع 5 مارس/آذار الاستثنائي لمنظمة أوبك، واجتماع أوبك بلس اللاحق في 6 مارس/آذار مع روسيا، سيتضمن في كل الأحوال مفاوضات مراوغة وخيارات صعبة. ومن بين هذه المحادثات الأولية التي أجريت كانت هناك محادثات رئيسية مع روسيا، التي كانت تتعاون مع المملكة العربية السعودية منذ عام 2016 لدعم أسعار النفط، عن طريق الحد من الإنتاج من قبل منظمة أوبك والعديد من المنتجين من خارج المنظمة.
ترأس هذه المفاوضات الأخ غير الشقيق لمحمد بن سلمان، وزير الطاقة الأمير عبد العزيز بن سلمان، الذي أصبح أول من يشغل هذا المنصب من الأسرة الحاكمة بعد الإطاحة بخالد الفالح في سبتمبر/أيلول 2019. وكان هذا التغيير يشير إلى تعزيز عملية صناعة سياسة الطاقة داخل الديوان الملكي، ويخدم أجندة رؤية 2030 الطموحة، التي يتزعمها ولي العهد. وفي الوقت نفسه، تم، حقيقةً، تسليم رئاسة أرامكو السعودية إلى ياسر الرميان، المقرب من محمد بن سلمان ومحل ثقته، والذي يترأس صندوق الاستثمارات العامة. يلعب صندوق الاستثمارات العامة دورًا رائدًا في عملية تنويع الاقتصاد، من خلال استثمارات عالية المخاطر في الخارج، ولكن أيضًا من خلال استثمارات بمليارات الدولارات في الداخل، وإنشاء صناعات جديدة بالكامل وحتى مدن جديدة. لتمويل هذه الاحتياجات، تم الضغط على أرامكو السعودية لإنتاج تمويلات فورية، سواء بجمعها من خلال شراء الشركة السعودية للصناعات الأساسية (سابك)، شبه الحكومية، أو من خلال خصخصتها المحدودة.
تستوجب هذه السياسات ارتفاع أسعار النفط. ودخلت السعودية مؤتمر أوبك في مارس عازمة على مزيد من التخفيض على إنتاج النفط، والضغط على روسيا للقيام بالشيء نفسه. ومع ذلك، عندما رفضت روسيا، مفضلة الانتظار حتى تعمل الأسعار، التي ستنخفض بصورة حتمية، على إضعاف المنتجين ذوي التكلفة المرتفعة، مثل صناعة النفطي الصخري في الولايات المتحدة، غيرت المملكة العربية السعودية استراتيجيتها بشكل جذري. تشير التقارير الواردة من فيينا إلى أن ولي العهد وجه شقيقه لبدء حرب من أجل الحصة السوقية للمملكة، ما ساهم في هبوط أسعار النفط إلى أدنى مستوى له منذ 20 عامًا.
من وجهة نظر اقتصادية، فإن الإدارة العقلانية لأسواق النفط توصي بخفض الإنتاج في الوقت الذي يتهاوى فيه الطلب على النفط، وتترنح فيه الأسواق المالية العالمية. ومع ذلك تأتي هذه الأزمة في وقت تتعالى فيه النعرات الوطنية والمؤسسات العالمية والتعاون الدولي في أضعف حالاتها. بدلاً من ذلك، يتم اختبار النظام العالمي الناشئ وتراتبية الدول من خلال التنافس في القدرات، العسكرية والتجارية على حد سواء. نظرًا لأن النفوذ العالمي للمملكة العربية السعودية ينبع من إنتاج النفط، فربما يكون من غير المستغرب أن يختار محمد بن سلمان تلك الحلبة لتحدي روسيا. وأصدر بن سلمان إنذارًا نهائيًا، لكن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين رفض الإذعان.
السعودية على ثقة من أنها قادرة أن تكسب حرب أسعار النفط هذه، ولكن ما هو الثمن؟ من المؤكد أن الانهيار الوشيك لعائدات النفط، ومعه الخطط الاقتصادية الطموحة لمحمد بن سلمان، سيشكل تحديًا أشد بكثير من التحدي الذي يشكله أي منافسين محتملين من الأسرة الحاكمة.
مشاركة المخاطر
انعكست الاعتبارات السياسية الوطنية التي تقود سياسة النفط على الاعتبارات القومية التي تعيد تشكيل السياسة في المملكة. نظرًا لأن محمد بن سلمان أضعف من نفوذ الأمراء، فقد عزز اعتماده على الشعب السعودي، سواء للدعم السياسي أو للمساهمة في الاقتصاد. وهذا يضع الشعب السعودي على المحك في اتخاذ قرارات متعلقة بأسواق النفط بطرق تؤثر عليهم بشكل فوري أكثر من ذي قبل.
ليس من الواضح كيف سيؤثر هذا على شرعية الحكومة في الفترة القادمة من الضبط المالي. وقد توجه المعلقون السعوديون إلى كل من الصحافة الدولية والمحلية لتوضيح هذا الانعكاس في سياسة النفط. تشيد افتتاحيات الصحف بشكل مستمر بمحمد بن سلمان لوقوفه في وجه بوتين، وتؤكد للجمهور أن المعركة من أجل حصة المملكة العربية السعودية السوقية ستؤتي ثمارها. ومع ذلك، من الصعب أن نرى كيف سيتوافق التحول الكبير المفاجئ في سياسة النفط -من استراتيجية أسعار عالية إلى استراتيجية أسعار منخفضة- مع الاستثمارات الكبيرة للدولة في مجالات الترفيه والتكنولوجيا والسياحة، وهى مجالات مفضلة في عهد محمد بن سلمان.
سوف يكون لتداعيات أزمة فيروس كورونا والاستراتيجية الجديدة لأسعار النفط المنخفضة تأثير فوري على الميزانية السعودية. صدرت توجيهات وزارية لخفض الإنفاق الحكومي بنسبة 5٪، وهناك دراسات مستقبلية تبحث في تخفيض الإنفاق الحكومي بنسبة 20٪. لتعويض هذا العجز، تدرس المملكة العربية السعودية أيضا رفع سقف الدين الحكومي من 30٪ إلى 50٪ من ناتجها المحلي الإجمالي، على الرغم من أنه قد يكون من الصعب الحصول على الائتمان السهل إذا تجمدت الأسواق المالية العالمية.
في هذه الأثناء، شهدت البنوك السعودية والمستثمرون الأفراد الذين تم تشجيعهم على إظهار اعتزازهم الوطني من خلال الاستثمار في أرامكو السعودية، انخفاض أرصدتهم في الشركة الرائدة بنسبة تزيد عن 20٪. في حين أثبت استثمار الجمهور السعودي في أرامكو ثقة الجمهور في الدولة السعودية، إلا أن هذا الاستثمار ضاعف من تعرض الجمهور لمخاطر النفط، ما أدى إلى تضخم تكلفة الكساد الحالي.
ومع ذلك، قد لا تكون هذ هي التضحية الأخيرة التي تطلبها الدولة السعودية من مواطنيها. إذا تدهور الوضع الاقتصادي أكثر، فمن المرجح أن تعتمد الحكومة السعودية أكثر على السردية القومية الجديدة التي تعزز أخلاقيات العمل أقوى والاعتماد على النفس بشكل أكبر. في غضون ذلك، أعلنت هيئة مكافحة الفساد السعودية (نزاهة) عن اعتقال ما يقرب من 300 موظف حكومي، معززة بذلك أوراق الاعتماد الشعبوية للحكومة، وتأكيد الحزم في مواصلة معاقبة كل من يسيء استخدام الأموال العامة.
الشعب السعودي على خط المواجهة
بما أن ولي العهد هو الذي يتزعم التحول السعودي، فقد وضع بصماته على صنع القرار في مجالات الطاقة والاقتصاد والسياسة الخارجية. في حين يعمل محمد بن سلمان على تهميش الأمراء، حشد السعوديين لدعم التغييرات الاجتماعية وإعطاء المزيد من عملهم وأموالهم. ومع تزايد المناورات عالية الخطورة مثل المواجهة مع روسيا، أصبح الشعب السعودي الآن مستثمرًا بشكل شخصي وعلى خط المواجهة.
مع كل جولة من الاعتقالات، يتواصل الجدل: هل يفعل محمد بن سلمان هذا لأنه قوي؟ أم لأنه ضعيف؟ ربما ينبغي طرح سؤال مختلف. هل هذا ببساطة هو الوضع الطبيعي الجديد لمملكة تكون فيها التعبئة الشعبية -والترويع- أكثر أهمية للحكم؟ في حين تتحرك المملكة مع جزء كبير من العالم نحو أوقات اقتصادية لا تُحتمل، يمكننا أن نتوقع المزيد من الاعتماد على هذه الإجراءات.