قبل شهرين، كان مجلس التعاون لدول الخليج العربية في حالة من الفوضى، لدرجة أنه لم يكن واضحًا أن الذكرى الأربعين لتأسيسه ستمنحه ما يكفي للاحتفال به. كانت مقاطعة قطر من جانب الدول الأعضاء، المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين، قد امتدت لأكثر من ثلاث سنوات. مع حلول الذكرى السنوية الأولى للأزمة، اعتبر كريستيان كوتس أولريخسن (Kristian Coates Ulrichsen) أن عجز مجلس التعاون لدول الخليج العربية عن منع اندلاع مثل هذه الأزمة بين الدول الأعضاء يعد فشلًا مؤسساتيًا واضحًا (واحد من بين العديد من الأسباب، كما جادل). بعد ذلك بعام، كتب عماد حرب أن مقاطعة قطر “قتلت” الكيان الإقليمي.
على كل حال، بعد توقيع اتفاقية العلا في يناير/كانون الثاني لإنهاء المقاطعة، فإن الدول الأعضاء في مجلس التعاون لدول الخليج العربية قد أثبتت مرة أخرى أنها كطائر الفينيق، الذي ينهض دائمًا من الرماد. جاء هذا التقارب وسط تحول ضروري في أولويات التهديد نحو مقاربة أكثر تركيزًا على الإنسان، والذي تجلى في جائحة فيروس كورونا، ومع تبني الإدارة الأمريكية الجديدة لمقاربة أكثر شمولاً في منطقة الخليج. في هذا السياق، قد تكون دول الخليج أخيرًا أكثر انفتاحًا على إنشاء نظام أمني إقليمي فعال، وهو مسعى في طور الإعداد لعقود من الزمن، في الحقيقة منذ إنشاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية نفسه تقريبًا.
تم إنشاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية في عام 1981 لتحقيق التوازن في مواجهة التهديدات، التي كان يعتقد أنها قادمة من العراق وإيران. ولكنه لم يتحول مطلقًا لنظام أمني إقليمٍ حقيقي. فعلى الرغم من وجود خطط في الأصل للتعاون العسكري، بما في ذلك إنشاء لجنة عسكرية، اجتمعت لأول مرة في سبتمبر/أيلول 1981، وإنشاء قوات درع الجزيرة المشتركة في عام 1984، إلا أن هذه الجهود لم تشهد سوى تقدم ضئيل في القدرات الدفاعية الجماعية لمجلس التعاون لدول الخليج العربية في الثمانينيات. في عامي 1990 و1991، أكد غزو العراق للكويت أن الحماية الإقليمية لا بد أن تأتي من شركاء خارجيين، وليس من أعضاء المجلس، الأمر الذي يعرقل آفاق التكامل الأمني الإقليمي.
ومع ذلك، تمكن هذا الكيان الإقليمي من الاستمرار في الوجود، وأطلق مجلس التعاون لدول الخليج العربية مبادرات لدمج أجزاء من الأنظمة الدفاعية للدول الأعضاء، ولكن دون نجاح يذكر. وكما هو معروف في عام 2001، وجه ولي عهد السعودية آنذاك الأمير عبد الله بن عبد العزيز انتقادات للمجلس بسبب هذا التقدم البطيء، “لم نقم بعد بإنشاء قوة عسكرية موحدة تردع الأعداء وتدعم الأصدقاء”. نجم هذا، إلى حد كبير عن وجود تصورات متباينة لدى أعضاء المجلس حول التهديدات، وخاصة ما يتعلق بالدول الواقعة على الجانب الآخر من الخليج (إيران في أغلب الأمر، ولكن أيضًا العراق).
في نهاية التسعينيات من القرن الماضي، أصبح من الواضح أن الدول الأعضاء في مجلس التعاون لدول الخليج العربية لم تنجح في تشكيل كيان أمني. قيّيم مايكل بارنيت (Michael Barnett) وإف جريجوري جووز (F. Gregory Gause III) مسار الكيان الإقليمي بالقول أن مسار الوحدة الإقليمية [الإطار الأمني] كان أكثر انسجامًا مع فكرة تشكيل تحالف، “تم تشكيله ردًا على تهديدات أمنية محددة، واستمراريته مرهونة باستمرارية هذه التهديدات، ويتضاءل بانحسارها”. تم تأكيد هذا الأمر في عام 2011، حيث دفعت التهديدات، التي تم ادراكها من انتفاضات الربيع العربي على استقرار النظام الخليجي، إلى دفع أعضاء المجلس لإعادة تجميع صفوفهم تحت شعار “متحدين نقف (متفرقين نسقط)”، وتجلى ذلك بشكل خاص من خلال رزمة مساعدات بمليارات الدولارات من أعضاء المجلس للبحرين وسلطنة عمان، فقط لتتراجع فكرة الاتحاد الخليجي بعد ذلك بمجرد انخفاض المخاطر الحالّة [في ذلك الوقت].
وفقًا لمهران كامرافا (Mehran Kamrava)، كان أحد أهم التغييرات التي جلبتها الانتفاضات العربية هو “التأكيد على قيادة السعودية لمجلس التعاون لدول الخليج العربية، بينما كانت قطر والإمارات [اللذين تصرفتا بتعالي] تتحديان بشكل متواصل التفوق السعودي داخل شبه الجزيرة العربية”. ليس فقط عادت دول الخليج الثلاث للدفاع عن مصالحها المحددة ورؤاها الاستراتيجية للشرق الأوسط الكبير وشمال أفريقيا، ولكن في ظل عجز القوى التقليدية (بسبب الاضطرابات في مصر وسوريا)، وهو ما أتاح لهذه الدول فرصًا جديدة لإثبات نفسها، بدأت هذه الدول بتكثيف عملها لتحقيق أهداف متقاطعة.
شكلت الأحداث التي شهدتها مصر في صيف 2013 نقطة تحول في إعادة تنظيم ديناميكيات القوى الإقليمية. بعد الإطاحة بالرئيس محمد مرسي، وما تبعه من قمع للمعارضة، انهالت حزم المساعدات الضخمة من السعودية والإمارات على نظام عبد الفتاح السيسي العسكري لموازنة كلٍ من المساعدات المالية، التي قدمتها قطر للحكومة السابقة [في مصر]، والتعليق قصير الأجل للمساعدات المقدمة لمصر من الولايات المتحدة والدول الأوروبية. لم يعمل هذا الأمر فقط على إظهار قدرة القيادتين السعودية والإماراتية واستعدادهما للضغط من أجل مصالحهما الإقليمية دون دعم من شركائهما الغربيين، وإنما كان أيضًا محاولة منهما لإجبار قطر لتحذو حذوهما، أو على الأقل، منعها من اتباع مسار يتناقض مع مسارهما.
إن طموح السعودية والإمارات في كبح ما كان يُنظر إليه على أنه مغامرة قطرية في المنطقة قد تجلى في الأزمة الخليجية، التي بدأت في يونيو/حزيران 2017، والتي كانت جذورها موجودة بالفعل في الانقسام داخل مجلس التعاون لدول الخليج العربية في عام 2014. إن عجز الكيان الإقليمي عن التوسط بين أعضائه، ومنع اندلاع مثل هذه الأزمة، قد دفع في الواقع العديد من المراقبين إلى الزعم بأن هذا ربما كان القشة التي قصمت ظهر البعير، حيث انقطعت العلاقات بين أعضاء المجلس بشكل لا يمكن إصلاحه.
ومع ذلك، فقد برز عدد من الأحداث خلال السنوات القليلة الماضية كإشارات على وجود إمكانية للتغيير الإيجابي، ليس فقط مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وإنما أيضًا عبر ضفتي الخليج.
على مدار العام الماضي، دفعت جائحة فيروس كورونا، والتحديات المشتركة المصاحبة لها (التي تجاهلت الحدود والانقسامات الجيوسياسية) الدول الأعضاء في مجلس التعاون لدول الخليج العربية للبحث عن طريقة للعودة معاً، وإيجاد حلول جماعية وضحت من خلال العديد من اجتماعات المجلس، التي عقدت في عام 2020 بالمشاركة الافتراضية من جميع الدول الأعضاء. علاوة على ذلك، فإن قيام الكويت وقطر والإمارات بمد يد العون لإيران، من خلال تقديم المساعدات الإنسانية، قد ساهم كذلك في تخفيف التوترات في جميع أنحاء الخليج.
وفي السياق ذاته، يمكن للإدارة الأمريكية الجديدة أيضًا أن تشجع على التخفيف من التوترات في المنطقة. على سبيل المثال، رأى الكثيرون في توقيع اتفاقية العلا قبل حوالي أسبوعين من انتهاء ولاية الرئيس دونالد ترامب “محاولة لتحسين العلاقات مع إدارة بايدن الجديدة، التي تم تنصيبها في واشنطن”. كما أن وصول إدارة الرئيس بايدن يمكن أن يساعد في تعزيز التقارب الذي دعا إليه الخبراء الإقليميون عبر الخليج في عام 2019. في ذلك الوقت، كان لفشل سياسة الضغوط القصوى التي اعتمدتها إدارة ترامب، والتي زادت من التوتر في الإقليم، الذي كانت في أمس الحاجة لوقف التصعيد، دورٌ في دفع الإمارات والسعودية لإقامة علاقات مع إيران. وأدى قتل الولايات المتحدة للقائد العسكري الإيراني البارز اللواء قاسم سليماني في يناير/كانون الثاني 2020 إلى الإطاحة بهذا الانفراج. لكن مع وجود رئيس جديد في البيت الأبيض، وإصلاح العلاقات داخل مجلس التعاون لدول الخليج العربية، يمكن لهذا الانفراج استئناف مساره – وذلك بمساعدة العلاقات الجيدة المستمرة بين طهران ومسقط، والعلاقات الأكثر واقعية التي تطورت بين طهران والدوحة في خضم أزمة الخليج.
اليوم، يمكن أن تكون كلتا ضفتي الخليج جاهزة لإجراء محادثات جادة حول القضايا الإقليمية وإيجاد نظام أمني إقليمي يعمل تحت رعاية شركائهم الأمريكيين والأوروبيين.
في مقال نُشر في مايو/أيار 2020، دعا كل من جيك سوليفان (Jake Sullivan)، مستشار الأمن القومي لبايدن، ودانيال بنعيم (Daniel Benaim)، نائب مساعد وزير الخارجية الجديد لمنطقة الخليج في وزارة الخارجية، لقيام الولايات المتحدة، بالتوازي مع الجهود المبذولة لإعادة الانضمام لاتفاقية خطة العمل النووية الشاملة المشتركة مع إيران، يجب دعم مسار إقليميٍ في الخليج لمعالجة القضايا التي لم تشملها الاتفاقية (التهديدات الصاروخية الباليستية والتدخل الإقليمي). يُمكن للحلفاء الأوروبيين أن يدعموا مثل هذه الفكرة، التي شجعها بشكل خاص الباحث الأوروبي كورنيليوس أديبهر (Cornelius Adebahr)، الذي جادل بأن “الأساس في تخفيف التوترات هو جلب جميع الأطراف لطاولة المفاوضات للتعبير عن مخاوفهم، والتوافق على تدابير متبادلة”. يمكن لهذه الفكرة أن تشكل أساسًا لمشروع طال انتظاره، وكان يناصره بشكل خاص صانع السياسة والباحث الإيراني سيد حسين موسويان، مجلس التعاون لدول الخليج العربية، الست، بالإضافة لإيران والعراق (GCC+2). وفي حين أن إضفاء الطابع المؤسساتي على مثل هذا المنتدى يبدو بعيد المنال، إلا أن الاتصالات المتزايدة مؤخرًا بين أعضاء المجلس وكل من العراق وإيران تشير إلى أنه يمكن أن يكون مفتوحًا للجميع، على الأقل، على طاولة واحدة في المستقبل القريب.
كجزء من مجلس التعاون لدول الخليج العربية، أو اتفاقية خليجية أوسع تشمل إيران والعراق، لا يزال يتعين دراسة الأشكال التي يمكن أن يتخذها التعاون الأمني الجديد. يمكن المساعدة في جسر الهوة التي وصفتها سينزيا بيانكو (Cinzia Bianco) بـ “فجوة الاختلافات” من خلال دعم إجراءات بناء الثقة، حيث يمكن على سبيل المثال الاستفادة من مخاوف الأمن الإنسانية، التي وضعتها جائحة كورونا على قمة أولويات أجندات هذه البلدان. كما يمكن لذلك التعاون الأمني أن يبدأ بالموضوعات الأمنية الأقل حساسية، مثل الأمن البحري أو، كما اقترح موسويان، التركيز على مخاوف أمنية مشتركة أخرى: “الإرهاب والتطرف والطائفية والجريمة المنظمة، والتهديدات غير المتكافئة/الحرب وتهريب المخدرات”. في هذا الصدد، يمكن للمبادرات الأمنية الإقليمية أن تعتمد على جهود التعاون السابقة، مثل توقيع اتفاقية تبادل المعلومات الاستخبارية في عام 2004، أو تسيير “دوريات أمنية معززة” في الخليج في عام 2019.
بشكل عام، في حين أن النقاشات العامة لأفكار التعاون الأمني الخليجي قد بدأت، لكن لا يزال هناك العديد من التفاصيل، التي يجب تحديدها بدقة، والعقبات التي يجب التغلب عليها، لا سيما لأن التهديد الذي يُعتقد أن إيران تشكله هو السبب الحقيقي وراء إنشاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية قبل 40 عامًا. وما يزال هنالك أيضًا سبب للأمل، وتشير إلى ذلك العديد من التصريحات الصادرة عن مسؤولي الدول الأعضاء في المجلس، قال ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في التلفزيون السعودي “نسعى إلى إقامة علاقات جيدة مع إيران”. وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني قال إن أعضاء مجلس التعاون لدول الخليج العربية بحاجة إلى “الجلوس مع إيران والتوافق على تنسيق إقليمي بيننا لمعالجة مخاوف الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي وأي مخاوف لدى إيران أيضًا”. العديد من دول الخليج تدرك الفوائد في عالمٍ متعدد الأقطاب والجدوى منه. قد تكون الدول الخليجية الآن على استعداد لقبول منطقة خليجية متعددة الأقطاب، والمساعدة في إنشائها، بحيث يكون من شأنها أن تستمد استقرارها وأهميتها من وجود مراكز قوى منفصلة بين دول الخليج العربية والعراق وإيران.