مع انتهاء وقف إطلاق النار، الذي دام أسبوعًا، وإطلاق سراح الرهائن في غزة، من المفيد تقييم كيفية تعامل دول الخليج مع الأزمة. حتى الآن تبدو الجهود وكأنها تهدف للتجاوب مع الغضب الشعبي العميق إزاء العمليات العسكرية الإسرائيلية التي أسفرت عن مقتل أكثر من 15 ألف شخص، منهم ما يقرب من 6000 طفل، وتدمير جزء كبير من شمال قطاع غزة ــ ومن الواضح أن ثمة احتمالات مماثلة مبيتة بالنسبة لجنوب القطاع، مع استئناف الأعمال العدائية. وفي الوقت ذاته، استخدمت الحكومات الخليجية رسائل تتسم بالمرونة، والمناورات الدبلوماسية المناسبة، والغموض لحماية حساباتها الاستراتيجية، ومنع أي ردود أفعال على الأزمة من عرقلة أهدافها على المدى البعيد.
الانتقاد وإظهار النفوذ من خلال الرسائل المتعلقة بالأزمة
لقد تباينت الرسائل المتعلقة بالأزمة إلى حد ما من بلد إلى آخر مع مرور الوقت، ومع احتدام شدة القتال في غزة وتراجعها مؤقتًا. بالنسبة للإمارات العربية المتحدة والبحرين، الدولتان اللتان قامتا بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، فقد تبنيتا لغة أكثر اعتدالاً في معظمها إلى حد ما، حتى في لحظات اشتداد الأزمة والإدانة الجماعية لإسرائيل، كما كانتا على استعداد في بعض الأحيان لإدانة حركة حماس على وجه التحديد، بسبب قيامها بأخذ الرهائن واستهداف المدنيين – كما فعل ولي عهد البحرين ورئيس الوزراء سلمان بن حمد آل خليفة في منتدى المنامة في 17 نوفمبر/تشرين الثاني. وفي الوقت ذاته، لم يخجل البلدان من إدانة إسرائيل بسبب عملياتها العسكرية المدمرة التي أسفرت عن نزوح أكثر من ثلاثة أرباع سكان غزة وحرمان السكان – الذي كان 80% منهم يعتمدون أصلاً على المساعدات الدولية قبل الحرب – من الغذاء الأساسي والمياه والمأوى والدواء. وفي الأمم المتحدة في 29 نوفمبر/تشرين الثاني، وجه وزير الدولة الإماراتي خليفة شاهين المرر انتقادات شديدة اللهجة لإسرائيل، مشيرًا إلى سياسات “العقاب الجماعي الإسرائيلي” ومحاولات تهجير الفلسطينيين في غزة من أراضي أجدادهم. كما أشار البيان الإماراتي إلى “انتهاكات القانون الإنساني الدولي” و”القصف العشوائي للمدنيين”، على الرغم من ربط هذه الانتقادات الأخيرة بشكل أكثر تجريدًا بالدعوة إلى “قواعد موحدة” في إنفاذ القانون الدولي، ولم ينسبها إلى إسرائيل على وجه التحديد.
أما دول الخليج التي لم تنضم إلى اتفاقيات إبراهام فقد ذهبت إلى أبعد من ذلك في الإدانة. فقد وصف بيان لوزارة الخارجية العمانية في أواخر أكتوبر/تشرين الأول العمليات الإسرائيلية في غزة بأنها جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وفي بيان بتاريخ الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني نُشر على موقع إكس (المعروف سابقًا باسم تويتر)، ونشرته وسائل الإعلام المحلية، دعت الحكومة العمانية إلى إجراء تحقيق في الإجراءات الإسرائيلية من قبل المحكمة الجنائية الدولية.
وفي العديد من النواحي الأخرى، كانت هناك أمور مشتركة في صياغة رسائل دول الخليج فيما يتعلق بالأزمة، بما في ذلك سلسلة من الدعوات إلى وقف لإطلاق النار بدلاً من مجرد هدنة مؤقتة لأسباب إنسانية. وقد أشار العديد من المسؤولين الخليجيين بشكل روتيني إلى الصراع باعتباره تطورًا خطيرًا وكارثة إنسانية، منتقدين إسرائيل لعدم سماحها بوصول المساعدات الإنسانية دون قيود.
كما استغل المسؤولون الخليجيون الوضع في غزة لتسليط الضوء على أهمية التعامل بشكل شامل مع القضية الفلسطينية. في منتدى المنامة، أصر رجل الدولة السعودي البارز الأمير تركي الفيصل على أن الصراع أوضح أن الجهود السابقة، التي فشلت في معالجة الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، كانت قائمة على الوهم. وفي السياق ذاته، أوضح المحلل الإماراتي أنور قرقاش، أن ما سماها سياسة “احتواء” القضية الفلسطينية فاشلة. وأكد عدد من المسؤولين أن تاريخ الصراع لم يبدأ في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، وأنه يجب فهم العنف الذي حدث في ذلك اليوم في سياق الاحتلال العنيف والطويل للفلسطينيين.
لقد أعرب المسؤولون الخليجيون بشكل متكرر عن مخاوفهم من أن حرب غزة من المرجح أن تتسبب في مستويات خطيرة من التطرف، وتمنح الميليشيات وغيرها من الجماعات المتطرفة منصة خطيرة. حتى إن بعضهم قد أيّد، في وقت مبكر من الصراع، الحجة القائلة بأن حركة حماس باعتبارها لاعب متطرف، “لا تمثل الشعب الفلسطيني أو شعب غزة”، ولكن هذه النقطة لم تعد تتكرر كثيرًا مع استمرار الصراع. في بعض الحالات وعلى نطاق أوسع في المنطقة. لاحقًا، تم حذف مثل هذه التصريحات العلنية التي تنتقد حركة حماس بهدوء من السجلات المكتوبة في وسائل الإعلام التي تسيطر عليها الحكومة. وقد دعا العديد من المسؤولين، سرًا وعلانيةً، الولايات المتحدة لبذل المزيد من الجهود القيادية، واستخدام نفوذها لكبح جماح إسرائيل، وفرض وقف إطلاق النار، وإحالة الطرفين إلى مؤتمر دولي. وفي مسعىً لاستخدام لغة إدانة جديدة، دعا ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان مؤخرًا إلى وقف صادرات الأسلحة إلى إسرائيل.
كما تمثل هذه الرسائل – بالإضافة إلى محاولة صياغة مناورة دبلوماسية أو الاستجابة لها في وضع متقلب، ومحاولة استشفاف الآراء الجماهيرية المتباينة والتعاطي معها، وذلك للحفاظ على السيطرة على الرأي العام المتقلب – جهدًا لإقناع شعوبها بأن هذه الحكومات لديها بعض النفوذ، وأنهم يستخدمونه في محاولة للسيطرة على الأزمة. وبالرغم من شدة بعض الانتقادات، من الواضح أن هذه الحكومات حريصة على عدم الإفراط في استعداء الولايات المتحدة أو الإضرار بصورة دائم بالعلاقات، الرسمية أو غير الرسمية، مع إسرائيل.
جهود المناورة الدبلوماسية والوساطة
بالإضافة إلى الرسائل، انخرطت حكومات الخليج في نوع من المناورة الدبلوماسية لتعزيز جهودها الرامية لتوجيه رسالة بأن لها دورًا في إدارة الصراع إلى درجة ما. وكانت أبرز هذه الجهود هي القمة العربية الإسلامية المشتركة التي عقدت في الرياض في 11 نوفمبر/تشرين الثاني. ودعت هذه القمة لوقف العمليات العسكرية في غزة بشكل فوري إلى جانب دعوة المحكمة الجنائية الدولية للتحقيق في “جرائم الحرب” التي ترتكبها إسرائيل. وقال الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي، أثناء إلقائه لكلمة لاذعة لفتت الانتباه إلى وجوده كأول رئيس إيراني يزور المملكة العربية السعودية منذ أكثر من عقد من الزمن، “نُقبّل يد حماس لمقاومتها ضد إسرائيل”. وكمتابعة لهذا الإجراء، قادت السعودية مجموعة صغيرة من وزراء الخارجية، معظمهم من وزراء الخارجية العرب، في جولة دبلوماسية في عواصم الدول الأعضاء في مجلس الأمن.
وفي نشاط دبلوماسي ملموس وأكثر تأثيرًا، لعبت قطر دور الوسيط الرئيسي في مفاوضات الرهائن بين إسرائيل وحركة حماس. وقد سلطت التغطية الإخبارية الضوء على نفوذ الدوحة لدى قادة حركة حماس، واستضافتها لفاعليات هامة، مثل الاجتماع الذي عُقد في 28 نوفمبر/تشرين الثاني بين مدير وكالة المخابرات المركزية الأمريكية ويليام بيرنز، ورئيس الموساد ديفيد بارنيع، ورئيس المخابرات المصرية عباس كامل. وقد أشادت إدارة الرئيس جوزيف بايدن وكبار المسؤولين الإسرائيليين بالدور المحوري الذي تلعبه قطر في الجهود الرامية لتحرير الرهائن في غزة، على الرغم من وجود أصوات تصر على المطالبة بمحاسبة قطر في نهاية المطاف بسبب علاقاتها مع حركة حماس، نظرًا لبشاعة أحداث العنف في السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
وبعيدًا عن المناورة الدبلوماسية والوساطة وراء الكواليس، استخدمت دول الخليج أيضًا المزيد من الجهود المحلية لاجتياز الأزمة ومنح المواطنين طريقة منظمة لإظهار الدعم للفلسطينيين. أطلقت عدة دول جهودًا بارزة لجمع التبرعات، مثل إطلاق حملة الإغاثة السعودية، بعد ثلاثة أسابيع من الحرب، لإظهار التضامن مع الفلسطينيين. وأوضحت التبرعات الكبيرة التي قدمها الملك سلمان ومحمد بن سلمان أن المبادرة مدعومة رسميًا. وكانت الإمارات قد أطلقت حملة مماثلة لجمع التبرعات الإنسانية قبل أسابيع. كما استقبلت الإمارات أطفالاً من غزة مصابين بجروح خطيرة لتلقي الرعاية الطبية في أبوظبي، وأقامت مستشفىً ميدانيًا على معبر رفح.
توجيه الاحتجاجات والإشراف على وسائل التواصل الاجتماعي
سمحت بعض دول الخليج بتنظيم احتجاجات مؤيدة للفلسطينيين، بما في ذلك البحرين وعُمان والكويت. وبالإضافة إلى الاحتجاجات المصرح بها، شهدت البحرين، على سبيل المثال، أيضًا العديد من الاحتجاجات غير المصرح بها، والتي تصدت لها شرطة مكافحة الشغب. وفي حين شعرت بعض الحكومات الخليجية بالحاجة للسماح بالاحتجاجات، كوسيلة للتخلص من الغضب الشديد بشأن العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، فقد فعلت ذلك بحذر، إدراكًا منها أن القضية الفلسطينية كانت تاريخيًا “بوابة للسياسة” والنشاط السياسي في المنطقة. ولم يتم الكشف عن احتجاجات، سواء كانت محظورة أو غير ذلك، في السعودية أو الإمارات.
وقد راقبت دول الخليج عن كثب اشكال التعبير على وسائل التواصل الاجتماعي على امتداد فترة الصراع. وفي حين قيل أن بعض المؤثرين المؤيدين لإسرائيل تمكنوا بانتظام من نشر محتوى ينتقدون فيه حركة حماس، والاعراب عن دعمهم لإسرائيل في السعودية والإمارات، فقد كانت هناك تقارير تفيد بأن المؤثرين المؤيدين للفلسطينيين أُجبروا على إزالة المحتوى والاعتذار عنه في بعض الحالات.
اللجوء إلى الغموض
ولقد لجأت الحكومات الخليجية في بعض الأحيان إلى الغموض لإبقاء الخيارات مفتوحة، وإرسال رسائل مختلفة إلى جماهير مختلفة. ففي البحرين، على سبيل المثال، أصدر البرلمان، الذي عادةً لا يكون له صوت يُذكر فيما يتعلق بالشؤون الدولية، بيان هام في الثاني من نوفمبر/تشرين الثاني، أصر فيه على أن الحكومة البحرينية قد استدعت سفيرها من إسرائيل، وطردت نظيره الإسرائيلي، وقطعت العلاقات الاقتصادية. وأصدرت الحكومة في وقت لاحق بيانًا مبهمًا قالت فيه إن السفير الإسرائيلي عاد إلى بلاده “منذ بعض الوقت” دون تقديم مزيد من التوضيحات، الأمر الذي خلق غموضًا حول الإجراء الذي اتخذته الحكومة البحرينية بالضبط. أما الإمارات فقد تحاشت مثل هذا الغموض بشأن العلاقات الرسمية مع إسرائيل خلال تطور الأزمة، مؤكدة أنها لن تفكر في تخفيض مستوى العلاقات مع إسرائيل، وأوضحت أن الاتصالات رفيعة المستوى سوف تستمر، حيث استقبل رئيس الإمارات محمد بن زايد آل نهيان الرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتسوج في 30 نوفمبر/تشرين الثاني في دبي.
وفي خضم هذه الجهود الخليجية لمواجهة أزمة غزة، ثمة تنوع كبير في المواقف والتوجهات، بالإضافة إلى مؤشرات تطور الاستجابة مع لحظات الغضب الشعبي المتزايد. حتى الآن، لا يزال هناك شعور جيد بالسيطرة، حيث تعمل الحكومات على حماية الأولويات الاستراتيجية طويلة الأجل وعمليات صنع القرار، سواء لحماية الاتفاقيات التي تم التوقيع عليها مع إسرائيل أو لتجنب استبعاد مثل هذا الخيار في المستقبل. المجهول الكبير هنا هو عامل الوقت: كم من الوقت ستستغرق العملية العسكرية الإسرائيلية؟ وكم من الوقت ستستغرق إسرائيل في معالجة قضية حركة حماس؟ عامل الوقت وحده سيحدد عدد الضحايا، وحجم النزوح الداخلي الفلسطيني، وحجم التغطية المؤلمة في وسائل الإعلام العربية التي ستشكل الغضب العام في الخليج والمنطقة على نطاق أوسع.
تمكنت دول الخليج، حتى الآن، من خلال استراتيجيات متباينة، ولكن متزامنة إلى حد ما، من اجتياز الأزمة الحالية بنجاح، وحماية مصالحها، وتجنب تعرضها للعزلة لعدم مبالاتها بأزمة غزة أو لعدم تأثرها المفرط بهذه الأزمة. ومن المرجح أن يستمر هذا المزيج الحالي من الاستراتيجيات في العمل بشكل فعال على المدى القصير والمتوسط، على فرض أن يتم حل الأزمة في الأسابيع المقبلة. سوف تحدد الأحداث الدرامية الكبرى القادمة أيّ الدول الخليجية ستمارس أكبر قدر من النفوذ والتأثير بمجرد توقف العمليات العسكرية الإسرائيلية، وماهية سيناريوهات اليوم التالي لحرب غزة – احتلال إسرائيلي طويل الأمد، أو تمكين للسلطة الفلسطينية، أو غير ذلك من التطورات – على ذلك النفوذ والتأثير الخليجيين. يمكن لسيناريوهات اليوم التالي لحرب غزة وأي مؤشرات على تزايد التطرف في المنطقة أن توفر أيضًا إنذارات مبكرة للمسائل المتعلقة بأطر التطبيع والحسابات الاستراتيجية ذات الصلة. وفي حين أنه من غير المرجح لأي مسائل من هذا القبيل أن تؤدي إلى تراجع في التوجهات الاستراتيجية المتعلقة بتطبيع العلاقات مع إسرائيل، إلا أنها قد تدفع إلى مناصرة أكثر عدوانية في دعم القضية الفلسطينية.
إن الآراء الواردة هنا هي آراء خاصة بالكاتب أو المتحدث، ولا تعكس بالضرورة آراء معهد دول الخليج العربية في واشنطن أو موظفيه أو مجلس إدارته.