تدفع الخسائر البشرية المروعة التي خلفتها الحرب الإسرائيلية في قطاع غزة – حيث أسفرت حتى الآن عن مقتل ما يزيد على 26 ألف شخص، مع تدمير 60% من البنية التحتية في القطاع – دول الخليج إلى تعديل مواقفها تجاه إسرائيل بشكل كبير. إلا أن هذا الأمر لم يقوض منطق دول الخليج في تطبيع العلاقات مع إسرائيل. وقد اتخذت دول – مثل الإمارات العربية المتحدة، التي وافقت مع البحرين على تطبيع العلاقات مع إسرائيل من خلال اتفاقات إبراهام عام 2020، والمملكة العربية السعودية التي كانت تسعى للتطبيع على مدى العامين الماضيين – خطوات لتنأى بنفسها عن إسرائيل. فقد صعّد السعوديون، على سبيل المثال، من حدة خطابهم، وأوضحوا مؤخرًا أنهم سيصرون على إيجاد طريق موثوق لإقامة دولة للفلسطينيين قبل تطبيع العلاقات مع إسرائيل، أو المشاركة في إعادة إعمار قطاع غزة.
في أوائل ديسمبر/كانون الأول 2023، رعت الإمارات، بصفتها العضو العربي في مجلس الأمن، قرارًا يدعو إلى وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وهو قرار عارضته كل من إسرائيل والولايات المتحدة. وفي نهاية المطاف استخدمت الولايات المتحدة حق النقض الفيتو ضد هذا الإجراء. وأوضحت سفيرة الإمارات لدى الأمم المتحدة أن الإمارات تعتبر حرب غزة “نقطة تحول” وأن أي خارطة طريق لما بعد الحرب دون حل الدولتين “ليست هي المسار الذي على أساسه وقعنا اتفاقات إبراهام”. وتحدث المستشار الدبلوماسي للرئيس الإماراتي، أنور قرقاش، مؤخرًا عن ضرورة إنهاء الاحتلال الإسرائيلي، وانتقد رد فعل إسرائيل غير المتناسب في قطاع غزة، وأكد على دعم الإمارات لإقامة دولة فلسطينية.
بالإضافة إلى هذا الخطاب الحاد، والتحركات في الأمم المتحدة، ومظاهر التضامن العامة، مثل الاجتماعات مع كبار المسؤولين الفلسطينيين والمساعدات الإنسانية الكبيرة، تفيد التقارير بأن السعودية، إلى جانب أربع دول عربية أخرى، تقدمت بمقترح لخطة دبلوماسية طموحة تركز على فترة ما بعد الحرب على قطاع غزة والتطلعات السياسية الفلسطينية. وفي حين أن الخطة لا تزال قيد التنقيح، تمت مشاركة نسخة منها مع الولايات المتحدة لكسب دعمها. يقوم العنصر الأساسي في الخطة على إيجاد طريق لإقامة دولة فلسطينية مقابل اعتراف السعودية بإسرائيل. كما تدعو الخطة الدول العربية كذلك للقيام بتدريب قوات الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية، وإحياء السلطة الفلسطينية كقوة سياسية. وقد رفضت إسرائيل الخطة “حتى الآن”، وأوضح رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو للولايات المتحدة أنه يعارض أي دولة فلسطينية. وتلعب قطر، في هذه الأثناء، دورًا محوريًا بالتعاون مع الولايات المتحدة وإسرائيل ومصر للتوصل إلى صفقة جديدة لإطلاق سراح الرهائن. ويعتقد أن هنالك 132 رهينة إسرائيلية ممن تم اختطافهم في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023 وما يزالوا في قطاع غزة.
منطق التطبيع ما يزال قائمًا
لا يزال منطق الدول العربية في تطبيع علاقاتها مع إسرائيل جليًا حتى في خضم الخطابات الحادة والجهود الدبلوماسية العربية المكثفة التي أثارتها حرب غزة، والذي كان بعضها على شكل نهجٍ جماعي. وما تزال الإمارات توضح أن سياستها تجاه إسرائيل تمثل خيارًا استراتيجيًا سيتغلب حتى على العقبات الرئيسية، مثل حرب غزة. إن الجهود التي تبذلها السعودية لإبقاء الباب مفتوحًا أمام التطبيع، حتى مع تكثيف المملكة للمناورات الدبلوماسية وزيادة حدة خطابها، توضح أن الصفقة الضمنية لدول الخليج لا تزال لها منطقها: التطبيع مع إسرائيل مقابل تحسين العلاقات، ومزيد من النفوذ مع الولايات المتحدة، ما يسمح لهم بالحصول على التزامات أمنية أكبر، وإمكانية الحصول على التكنولوجيا وأنظمة الدفاع الأمريكية. من الطبيعي أن يكون لكل دولة خليجية دوافعها وأولوياتها في تشكيل منطق التطبيع هذا وفقًا لاحتياجاتها الخاصة. ترى الإمارات، على سبيل المثال، على افتراض أن الولايات المتحدة تنسحب من المنطقة، في إسرائيل كقوة أمنية إقليمية قوية، ويمكن أن تكون شريكًا محتملًا، ودولة يمكن أن توفر فرص استثمارية والتجارة الاستراتيجية. إن هذا المزيج من العناصر يختلف إلى حد ما عما يسعى له السعوديون. لكن المنطق الأساسي للتطبيع يظل ثابتًا نسبياً.
حتى إن الاستعداد المعلن لمواصلة عملية التطبيع، والذي يعد أقل بكثير من أي اتفاق، قد ساعد ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان إلى حد كبير في تحسين العلاقات مع الإدارة المترددة في واشنطن ومع الكونجرس المتشكك، والذي غالبًا ما يكون عدائيًا. ويصر بعض المحللين على أن محمد بن سلمان قد حصل بالفعل على الكثير مما يريد، فيما يتعلق بتحسين العلاقات مع الولايات المتحدة، حتى وإن كانت الحرب قد تسببت، إلى حد كبير، في إبطاء أو تأخير احتمالات التوصل إلى اتفاق سعودي-إسرائيلي لتطبيع العلاقات بينهما.
في حين أن منطق التطبيع لا يزال قائماً ويستمر في تشكيل الدبلوماسية والاتصالات والدوافع، يبدو أن حرب غزة قد غيرت الحدود الخارجية للتطبيع: آفاق التطبيع بالنسبة لدول الخليج والدول العربية الأخرى، والتأثير المتجدد للقضية الفلسطينية في تقييم دول الخليج لحسابات الربح والخسارة جراء تطبيع العلاقات، وارتفاع الثمن الذي تدفعه إسرائيل، خاصة مقابل صفقة مع السعودية.
فيما يتعلق بالآفاق، يبدو أن كلاً من الإمارات والبحرين قد خفضتا من توقعات التطبيع على المدى القصير. وقد حذرت الإمارات مؤخرًا من أن حرب غزة قد تسببت في تراجع العلاقات، ومن الممكن أن تفضي إلى سلام بارد يتوقف عند مستوى العلاقات بين الحكومات إذا طالت الحرب. وقام البحرينيون عمليًا بخفض مستوى العلاقات بما يضمن عدم وجود سفير إسرائيلي في البحرين، ولا سفير بحريني في إسرائيل. في المستقبل المنظور على أقل تقدير، ترى الدول الخليجية التي قامت بتطبيع العلاقات مع إسرائيل أو تلك الساعية إلى ذلك، أن الحدود الخارجية – المتمثلة في احتمالات إقامة علاقات ودية، والانخراط التام مع إسرائيل – تتضاءل، وأن التكلفة المحتملة تتزايد.
انعكاسات حرب غزة على مواقف العرب تجاه التطبيع
في حين أن مثل هذه التطورات قد لا تدوم طويلاً، فمن المرجح أن تظل حصيلة الدمار والقتلى المروعة في قطاع غزة عالقة في الوعي العام العربي، ما من شأنه أن يمنع أي استئناف سريع لزخم عملية التطبيع. أظهرت استطلاعات الرأي في دول الخليج والمنطقة ككل قبل فترة طويلة من الحرب مستويات ضعيفة، بشكل ملحوظ، من الدعم الشعبي لتطبيع العلاقات مع إسرائيل. وتظهر استطلاعات الرأي منذ بدء الحرب أن الدعم الشعبي العربي للتطبيع، بما في ذلك السعودية، قد انخفض بشكل حاد. وقد أكدت نتائج استطلاعات رأي أخرى عودة تأثير المكانة البارزة للصراع الإسرائيلي-الفلسطيني على سياسات المنطقة. كما يوضح هذا الاستطلاع زيادة الدعم للجوء الفلسطينيين للقوة في معالجة قضيتهم والتراجع الكبير في تأييد أي دولة تقيم علاقات جيدة مع إسرائيل. تشهد الولايات المتحدة الانخفاض الأكبر، ولكن ذلك يشمل أيضًا الدول العربية التي قامت بتطبيع علاقاتها مع إسرائيل. أشار القائمون على استطلاعات الرأي في برنامج الباروميتر العربي إلى أن الولايات المتحدة ستواجه مشكلة في توسيع اتفاقات إبراهام بسبب تأثير حرب غزة على المشاعر العربية تجاه إسرائيل والتطبيع والولايات المتحدة.
بالإضافة إلى هذا الرأي العام، الواضح بشكل جلي، حول الحرب وآفاق العلاقات مع إسرائيل، شهدت شوارع مختلف العواصم العربية احتجاجات منتظمة شملت البحرين أيضًا. والحكومات الخليجية تدرك تمامًا هذه الآراء السلبية التي تتمسك بها الشعوب على نطاق واسع تجاه التطبيع مع إسرائيل والإجراءات الإسرائيلية في قطاع غزة. لدى الحكومات الخليجية حساسية تجاه الرأي العام، وتعمل الكثير لمحاولة تشكيله؛ هذه الدول تفضل عمومًا العمل في سياقات تحظى فيها التحركات الكبيرة بدرجة معينة من الدعم العام. من المرجح أن يعمل الحكم الصادر عن محكمة العدل الدولية في 26 يناير/كانون الثاني، والذي يأمر إسرائيل “باتخاذ جميع التدابير التي في وسعها لمنع ارتكاب جميع الأعمال” المندرجة ضمن نطاق اتفاقية الإبادة الجماعية، مع الاعتراض على مسألة وقف إطلاق النار، على تعزيز الرأي العام المتشدد المشار إليه في استطلاعات الرأي.
ارتفاع تكلفة التطبيع
إن الحقائق على الأرض في قطاع غزة، والتي تعززها الديناميكيات السياسية الإسرائيلية الداخلية، واللهجة الخطابية لأعضاء ائتلاف نتنياهو من اليمين المتطرف، تجعل من الصعب التنبؤ بالكيفية التي تخطط بها إسرائيل إنهاء العملية العسكرية في القطاع، ولو على الأقل بطريقة يمكن أن تساعد في تهدئة الرأي العام المتشدد في الخليج والعالم العربي ولو قليلاً. ومن دون تغيير هذا الوضع إلى شكل من أشكال الحل الدبلوماسي، فإن مشاهد القتل والدمار في قطاع غزة سوف يتكرر ظهورها في المنطقة. وهذه الحقائق سوف تضمن بروز أهمية الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني مجددًا كأحد عوامل تشكيل عملية صنع القرار في حكومات الخليج. كما أن هذه الحقائق القاسية تعني أيضًا ارتفاع الثمن الدبلوماسي الذي ستدفعه إسرائيل مقابل التطبيع. حيث كان منطق التطبيع في الماضي يعني أن الولايات المتحدة، بشكل مباشر أو ضمني، هي الطرف المتوقع منه تحقيق النتائج، بحيث تعود الفائدة بشكل أساسي لإسرائيل، إلا أن مطالب دول الخليج التي شكلتها حرب غزة توضح أنه سوف يُطلب من إسرائيل تقديم تنازلات سياسية مكلفة تتعلق بالدولة الفلسطينية والوضع النهائي في قطاع غزة. وفي حين أنه من المرجح للمفاوضات أن تقلص من حجم مثل هذه المطالب، إلا أنها ستبقى تلوح في الأفق طالما ظلت الظروف المروعة في القطاع هي محور التركيز.
وفي حين تفترض دول الخليج بقاء منطق التطبيع مقنعًا، حتى وإن قيدت الحقائق الفظيعة والمتصلبة في قطاع غزة من إمكاناته، فإنها ستدرس تحركات الولايات المتحدة الدبلوماسية في الأشهر القادمة بمزيد من التدقيق، على أمل تعزيز المنطق الواعد للتطبيع وليس آفاقه المتقلصة في الوقت الحالي.