ساعد معهد دول الخليج العربية في واشنطن في تسليط الضوء على أصوات الشباب الخليجي.
تبرع
ليس من الغريب على شبه الجزيرة العربية أن تقدم مشاريع مذهلة في مناطقها الحضرية، فمدنها تعج بمنشآت استشرافية تسعى لتمهيد الطريق لمستقبل تقدمي. ومع ذلك، هناك حالات لم تحقق فيها هذه المشاريع كل ما كان يفترض أن تحققه، وما تزال العديد من الرؤى غير مكتملة. ومع هذا، ربما لا تزال لديها إمكانات واعدة، كما هو الحال مع التطورات الأخيرة في المملكة العربية السعودية.
في عام 2017، أعلنت المملكة عن إنشاء مدينة جديدة، نيوم، التي تقع في المنطقة الشمالية الغربية من تبوك، المطلة على البحر الأحمر. نيوم هي مزيج من كلمتين، كلمة “نيو” اليونانية والكلمة العربية “مستقبل”. تقدر المساحة الإجمالية للمشروع بـ 10,000 ميل مربع. عندما انطلق المشروع، لم تكن الكثير من تفاصيله معروفة بشكل محدد. ومع ذلك، أشارت البيانات الرسمية – التي تناولتها وسائل الإعلام الدولية بإسهاب – إلى أنه سيتم بناء المدينة “من الصفر”، وأنها ستكون “أكبر من دبي وتحوي من الروبوتات أكثر ما تحوي من البشر”. وفي تصريح لولي العهد الأمير محمد بن سلمان، أعلن في إحدى المقابلات أن “كل شيء سيكون مرتبطًا بالذكاء الاصطناعي، مع إنترنت الأشياء – في كل شيء”. ولكن تأتي هذه الطموحات بتكلفة تقدر بنحو 500 مليار دولار وفقًا لمقال نشر في صحيفة وول ستريت جورنال بعنوان “الحلم الصحراوي للأمير بقيمة 500 مليار دولار: سيارات طائرة وديناصورات آلية وقمر عملاق صناعي”.
لم تكن هناك تصورات أو رسوم بيانية توضح كيف يمكن لمثل هذه الرؤية أن تتحقق على امتداد هذه البقعة القاحلة من الأرض. إلا أن ذلك قد تغير مؤخرًا. في يناير/كانون الثاني، قدم ولي العهد مشروع [ذا لاين]- وهو مدينة يبلغ طولها أكثر من 100 ميل على استقامة واحدة، تم تصورها “كمخطط نموذجي سعودي للمستقبل العالمي للحياة الحضرية”. يقع مشروع [ذا لاين] في قلب مدينة نيوم، وقد تم تصميمها لتكون نوعًا جديدًا من المدن التي تسعى لجذب السكان من جميع أنحاء العالم. ونظرًا لأنها تبدو منفصلة عن السياق المحيط بها، فإنها تستهدف الجمهور العالمي باستخدام تعبيرات جذابة مثل “إمكانية المشي” و”انعدام الكربون” و”المدينة الذكية”. يصفها الموقع الرسمي بأنها “ثورة في الحياة الحضرية”.
كانت ردود فعل وسائل الإعلام الدولية رافضة إلى حد كبير، وفي بعض الحالات كانت معادية تمامًا. وتجدر الإشارة بشكل خاص لمقال في صحيفة النيويورك تايمز يدعي كشف النقاب عن “حقيقة مظلمة وراء الأحلام الطوباوية للسعودية“. ينظر هذا المقال إلى فكرة مشروع [ذا لاين] بالدرجة الأولى من خلال عدسة الأحداث الجيوسياسية والاضطرابات الإقليمية، وبالتالي تصبح وسيلة أكبر لتوجيه الانتقادات للمملكة وسياساتها. وأشار مراقبون آخرون إلى أن مشروع [ذا لاين] سيؤدي لنزوح آلاف السكان الذين كانوا يعيشون بالفعل في المنطقة، وتحديدًا أبناء قبيلة الحويطات. إلا أن أحد اعضاء المجلس الاستشاري لنيوم قال إنه سيتم تعويض النازحين من أفراد القبيلة. يبدو أن مثل هذه التأكيدات تهدف لإحباط المقاومة النشطة الموجهة نحو التنمية، مع ورود تقارير عن مقتل أحد المتظاهرين في عام 2020. بالإضافة إلى ذلك، فقد أشار النقاد إلى أن المدينة ستكون بمثابة “كابوس مراقبة“، لأنها تهدف إلى ممارسة قدر غير مسبوق من السيطرة على سكانها المستقبليين من خلال جمع بياناتهم الشخصية.
بصرف النظر عن هذه الانتقادات والعيوب، هل تطوير مخطط نيوم و[ذا لاين] يخلو من المزايا تمامًا؟ أليس ثمة فائدة يمكن جنيها من اقتراح مثل هذه الرؤى المستقبلية؟ وربما الأكثر صلة بالموضوع، هل سيتم حقًا بناء نيوم و[ذا لاين] وتتحقق هذه الرؤية؟ من المؤكد أن استعراض تاريخ المشاريع السابقة لا يطمئن كثيرًا. خلال حكم الملك السابق عبد الله بن عبد العزيز (2005-2015) تم التخطيط لست مدن اقتصادية. تم تأخير بعضها، أما البعض الآخر، فإما لم يتم تنفيذها مطلقًا، أو تم تقليص مجالها واختصاصها بشكل كبير. في عام 2005، تم الشروع بمدينة الملك عبد الله الاقتصادية بالقرب من جدة. ثم تم التخطيط لثلاث مدن اقتصادية متكاملة في عام 2006 في حائل والمدينة المنورة وجازان. في عام 2007 تم اقتراح مشاريع مماثلة لتبوك والمنطقة الشرقية من المملكة. تم تقليص أكثر من 85% من المساحة المقترحة لمدينة حائل الاقتصادية، وتم تعديل الخطة بأكملها. حسب مديرها، لم تكن التوقعات والأهداف الأصلية للمشروع واقعية. تم الانتهاء من المرحلة الأولى من مدينة الملك عبد الله الاقتصادية في عام 2010، واعتبارًا من عام 2015، تم تطوير 15٪ فقط من المدينة. ليس من الواضح ما إذا كانت هذه المدينة الطموحة سوف تكتمل أبدًا وفقًا للرؤية الأصلية.
بدلاً من التركيز على ما إذا كانت هذه المدن قد تم بناؤها أم لا، قد يكون من المفيد استعراض مدى اتباعها لتقاليد الرؤى الطوباوية في العمارة والعمران. وبالرجوع للقرن الثامن عشر، خطط المهندس المعماري الفرنسي كلود نيكولاس لادو (Claude-Nicolas Ledoux) مدينة مثالية تتمحور حول مصنع للملح، وكان ذلك هو المبنى الوحيد الذي تم إنجازه بالفعل. في القرن التاسع عشر، اقترح المصمم الحضري البريطاني إبينيزر هوارد (Ebenezer Howard) مفهومًا حضريًا يضم مجموعة من مدن الحدائق التي يتم تكوينها كمراكز حول محور مركزي. أصبحت تُعرف باسم “حركة مدينة الحدائق“، وثبت أن لها تأثيرًا كبيرًا. خلال القرن العشرين، كان هناك اقتراحان سبقا تصميم [ذا لاين]: مخطط المعماري الأمريكي فرانك لويد رايت (Frank Lloyd Wright) لمدينة بروداكر (Broadacre)، ومدينة دينابوليس (Dynapolis) لمخطط المدن اليوناني كونستانتينوس دوكسياديس (Constantinos Doxiadis). تم وضع التصور لمدينة بروداكر في عام 1932 لتكون مجتمعًا طوباويًا متحررًا، تمتد المدينة على طول شبكة لامتناهية، مع بيوت منخفضة الارتفاع وناطحة سحاب بارتفاع ميلٍ للراغبين في مناطق عالية الكثافة السكانية. لم يتم بناء المدينة أبدًا، على الرغم من وجود أثر واضح لها في مساحات لامتناهية من الضواحي عبر الولايات المتحدة. جاءت دينابوليس بمثابة رؤية لـ “مدينة المستقبل”، كما وصفها دوكسياديس في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، وقد صممت كمستوطنة حضرية تمتد على طول محور رئيسي مركزي. يمكن رؤية أصداء هذا المفهوم في مخطط الرياض، الذي نفذه المخطط اليوناني في ستينيات القرن الماضي.
وفي الوقت الذي لم يتم فيه تنفيذ أو بناء أي من هذه الرؤى الحضرية وفقًا لما كان مخططًا لها، إلا أنها على درجة عالية من الأهمية لكون العديد من عناصرها ومكوناتها قد وجدت طريقها للتخطيط الحضري المعاصر، وأصبحت دعامات أساسية للرؤى الحضرية الحديثة. لا يتضح هذا في المدن حديثة التخطيط في شبه الجزيرة العربية فحسب؛ وإنما كان لهذه الرؤى أثر على التنمية الحضرية في جميع أنحاء العالم. وتعد برازيليا، عاصمة البرازيل، مثالاً مؤثرًا بشكل خاص. تم التخطيط لها في الخمسينيات من القرن الماضي، وتعكس الطابع الحضري الذي يعتمد على حركة السيارات، ويسعى للقضاء على أي نوع من حياة الشوارع، ويبدو أنه يجسد امتدادًا لا متناهيًا لشبكة متكررة. ومع هذا فهي لا تزال مصدر إلهام لعشاق العمارة وخضعت لأبحاث وتحليلات مكثفة.
يعد مشروع مدينة [ذا لاين] استمرارًا لهذه الرؤى المستقبلية والطوباوية لاعتبارات عديدة. حيث يتم تصورها كمدينة بلا سيارات أو حتى شوارع، بهدف تخفيف صافي انبعاثات الكربون للصفر. ومن المقرر أن تقام المدينة على امتداد حزام بطول 106 أميال من المجتمعات “متصلة بصورة كبيرة” وتمتد من الجبال في شمال غرب السعودية إلى البحر الأحمر. والأهم من ذلك أنها تتكون من ثلاث طبقات: السطح مخصص للمشاة، بينما تستخدم الطبقتان اللتان تحت الأرض للمواصلات والبنية التحتية. علاوة على ذلك، بدلاً من التوسع المستمر في المشهد الحضري، يتم ترتيب المدينة في “تجمعات” تتجمع على طول محور رئيسي مركزي. وفي إشارة إلى التطورات الأخيرة في الطابع الحضري، يشير القائمون على التطوير إلى أن المدارس والمتاجر والضروريات الأخرى ستكون جميعها على بعد 15 دقيقة سيرًا على الأقدام. إن تحقيق مثل هذه الرؤية سيعد مساهمة مهمة تضاف إلى الطابع الحضري. ومع ذلك، ووفقًا للتقارير الأخيرة، فإن نيوم غارقة في مستنقع التأخير “وتعاني من نزوح جماعي للموظفين” الذين يشكك بعضهم في إمكانية تنفيذ المخططات. علاوة على ذلك، أشار بعض المسؤولين السعوديين إلى أن أكثر من مليار دولار تم إنفاقها على تطوير البنية التحتية الأولية، و”كان من الممكن الاستفادة منها بشكل أفضل في مكان آخر”. ومع ذلك، فإن العمل في التنفيذ الشامل للمشروع مستمر على قدم وساق. حتى إن هناك اقتراحًا لبناء ناطحة سحاب ضخمة تصل لارتفاع 1600 قدم.
وبصرف النظر عما إذا كان مشروع [ذا لاين] سيؤتي ثماره أم لا، فقد يكون أهم وأبرز مظهر من مظاهر المشروع هو الترويج لرؤية جديدة للحياة الحضرية. فهو يحتوي على عناصر من فكرة كارلوس مورينو (Carlos Moreno) لمدينة الـ “15 دقيقة”، حيث تقع الضروريات الحضرية اليومية على مسافة 15 دقيقة سيرًا على الأقدام أو بالدراجة. يمكن الوصول بسهولة إلى العمل والمنزل والمتاجر ومرافق الترفيه والتعليم والرعاية الصحية، الأمر الذي يقلل من الرحلات غير الضرورية. علاوة على ذلك، فإن مثل هذه الرؤية للطابع الحضري تشير إلى علاقة جديدة بين المواطنين وإيقاع الحياة في المدن. ومن خلال التركيز على الخطاب الدارج الآن حول إمكانية المشي والتخلص من السيارات في شوارع المدينة، إضافة إلى الاستخدام المكثف للتقنيات الرقمية، يعكس مشروع [ذا لاين] هذه الأفكار ويركز عليها. وقد يقدم التطوير في الحقيقة دروسًا مفيدة للطابع الحضري في القرن الحادي والعشرين.
من الطبيعي أن تتغير المشاريع تبعًا لتغير الظروف. ومن المرجح جدًا أن يتطور مشروع [ذا لاين] أكثر فأكثر. ومع ذلك، حتى لو لم تكتمل بشكلها النهائي أبدًا، فإن تقديم مثل هذه الفكرة، بجرأتها وتكيُّفها المبدع للمفاهيم الحضرية السائدة، يشير إلى إمكاناتها الواعدة. وهي تسير على خطى الرؤى المستقبلية الأخرى التي كانت جزءًا لا يتجزأ من التنمية الحضرية على مدى العقود القليلة الماضية. إن المشروع بحاجة للتمحيص والتقييم بناءً على المزايا الحضرية والمعمارية، وليس من خلال وضعه حصريًا في سياق اجتماعي وسياسي محدد. ومع ذلك، فهذا لا ينبغي أن يمنع النقاد من الإشارة إلى بعض التداعيات السلبية التي من الممكن أن تنجم عن مثل هذه الرؤى الفخمة. من الناحية المثالية، لا ينبغي لهذه “المدن الفاضلة” الحضرية أن تنأى عن الموارد الموجودة أو أن تتسبب في إهمال المدن القائمة. فمدينة جدة تعاني من بنية تحتية متقادمة، وتحتاج الرياض إلى التركيز على بعض أحيائها المترهلة. يجب توجيه الجهود نحو تحسين هذه المناطق. ومع ذلك، وفي حين يتم توجيه الكثير من الاهتمام نحو المشاريع العملاقة، إلا أنه يتم أيضًا تكريس الكثير من الجهود لتعزيز أشكال أكثر حميمية في الطابع الحضري. هنالك في الرياض برنامج شامل للبنية التحتية العامة بالإضافة إلى مبادرة إنسانية فعالة تقدم رفاهية السكان على الأرباح المالية. تهدف الجهود الحديثة إلى إضفاء الطابع الإنساني على الأحياء السكنية، ونهجٌ من هذا القبيل يسمح برؤية لمستقبلٍ يمكن فيه التعايش المشترك بين ما هو مذهل وما هو عادي؛ دون أن يستبعد أحدهما الآخر بالضرورة.