أياً كانت الحسابات الداخلية التي دفعت الرئيس دونالد ترامب يوم 6 كانون الأول/ديسمبر إلى الإعلان أن الولايات المتحدة تعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل وستنقل سفارتها إلى هناك من تل أبيب، فإن العواقب الدولية من المحتمل أن تكون بعيدة المدى وعلى الأغلب سلبية تمامًا. ويضع هذا الإعلان القادة الفلسطينيين، ولا سيما رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، في وضع يستحيل التعامل معه نهائيًّا. كما سيجعل من الصعب للغاية على دول الخليج العربية، وبالتحديد السعودية والإمارات العربية المتحدة، استكشاف إمكانية إجراء حوار أوسع مع إسرائيل على أساس المخاوف المشتركة بشأن تنامي القوة الإيرانية في الشرق الأوسط.
والآن سيجد عباس التعامل البناء مع واشنطن والانخراط في محادثات سلام مع إسرائيل مستحيلاً عمليًّا من منظور سياسي محلي، ما لم يكن هناك توضيح من البيت الأبيض بأن الولايات المتحدة تعترف بالقدس الغربية، وليس القدس الشرقية المحتلة، عاصمة لإسرائيل. وبالنتيجة، فقد كانت قضية مستقبل القدس هي حجر أساس الملفات في مفاوضات الوضع النهائي منذ اتفاقيات أوسلو والإطار العام لمجمل عملية السلام التي تم التوصل إليها عام 1993. حتى ولو أوضح ترامب فعلا أنه كان يشير فقط إلى القدس الغربية -وهو أمر يبدو مستبعدًا لأنه كان من السهل عليه أن يذكر ذلك في بيانه الصادر في السادس من كانون الأول/ديسمبر- فإنه سيبقى مجحفًا لما كان معترفًا به عالميًّا حتى الآن كقضية جوهرية في الوضع النهائي.
ومع ذلك، فإن في إعطاء الانطباع بأن الولايات المتحدة تعترف الآن بجميع القدس، بما فيها القدس الشرقية المحتلة، عاصمة لإسرائيل، خيانة شبه كاملة ليس فقط للآمال الفلسطينية، وإنما أيضًا للالتزامات والتعهدات الأمريكية والإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، بالإضافة إلى السياسات الأمريكية السابقة وقرارات مجلس الأمن الدولي الثابتة تقريبًا.
وبسبب الاحتلال، ليس أمام الفلسطينيين خيار سوى التعامل مع الإسرائيليين على أساس إدارتهم اليومية لعلاقة لا مفر منها. ومع ذلك، فإنهم لا يحتاجون إلى مواصلة التفاوض معهم عندما يتم تغيير البنود جذريًّا من جانب واحد من قبل راعي عملية السلام، وهو الولايات المتحدة. وهذا لا ينطبق على دول الخليج العربية. فالانفتاح على حوار جديد مع إسرائيل على أساس تصورات التهديد المشترك المتعلق بالهيمنة الإيرانية يعتبر خيارًا متوفرا لهم أكثر منه واجبًا عليهم. ولا شك أن هناك ضرورة استراتيجية واضحة لاستكشاف إمكانيات مثل هذا الانفتاح والعلاقات الجديدة. ولكن هناك أيضًا عقبات سياسية هائلة تحول دون القيام بذلك، وقد تفاقمت مؤخرا بدرجة كبيرة.
منذ الأيام الأولى لإدارة ترامب، كان معروفًا للكثيرين أن البيت الأبيض قد أبدى اهتمامًا بالغًا باستكشاف نهج “من الخارج إلى الداخل” للسلام الإسرائيلي – الفلسطيني، ويشجع على زيادة الحوار بين إسرائيل والدول العربية، وخاصة الخليجية، ما يشكل أساسًا جديدًا للتقدم بين الإسرائيليين والفلسطينيين. وقد تم تكليف كبير مستشاري ترامب وصهره جاريد كوشنير بالملف الإسرائيلي الفلسطيني، والذي يعتبره الكثيرون مؤشرًا على الجدية التي تنظر بها الإدارة إلى هذه المسألة. وقد أُرسل كوشنير أيضًا مبعوثًا رئيسيًّا للرياض، ومن المعروف أنه أقام علاقة قوية مع ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، ما يشير إلى احتمال وجود تداخل بين تعزيز العلاقات السعودية-الأمريكية وإمكانية انفتاح خليجي جديد نحو إسرائيل.
وعلى مدى العام المنصرم، أصبحت فرص الانفتاح بين إسرائيل ودول الخليج العربية من بين أكثر القضايا الدولية عرضة للتكهنات والشائعات والافتراضات التي لا أساس لها. وهذا أمر يمكن استيعابه لأن مثل هذا التطور، إذا ما حدث، سيكون حدثًا جللاً حقًّا، وتحولاً سياسيًّا، واستراتيجيًّا بالغ الأهمية. ومع ذلك، على الرغم من الكثير من التخمين واللغط، لا يوجد دليل واضح على أن هنالك علاقة هامة وجديدة حقًّا قد نشأت بالفعل بين إسرائيل ودول الخليج العربية.
ومما لا شك فيه أن التصورات المشتركة بشأن التهديد الإيراني – خاصة بعد سقوط حلب والتوسع الأخير والسيطرة الإيرانية على مناطق رئيسية من الحدود العراقية السورية بعد الاستفتاء على الاستقلال الكردي وانهيار تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام – كل ذلك يوفر أساسًا منطقيًّا لانفتاح استراتيجي محتمل. ومع ذلك، فإن لدى الجانبين روايات متناقضة كثيرًا حول ما تم إنجازه. وكثيرًا ما يدعي القادة الإسرائيليون، بمن فيهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، أن هناك تحولاً جذريًّا في المواقف العربية تجاه إسرائيل، وأن شراكة إستراتيجية جديدة ضد إيران قد تحققت عمليًّا. ويبدو أن هذا الأمر مبالغ به كثيرًا، وقد يكون محاولة لترويج الفكرة لدى الجمهور من كلا الجانبين وتعزيز الانطباع بوجود الأمر الواقع من أجل خلق ما يصل إلى نبوءة تحقيق الذات.
ومع ذلك، وفي مقابلة أجراها مؤخرًا رئيس أركان الجيش الإسرائيلي الجنرال غادي ايزنكوت مع صحيفة إيلاف السعودية التي تتخذ من لندن مقرًا لها، فقد أشار بشكل أوضح إلى مدى قلة ما تحقق حتى الآن. صحيح أن إجراء مقابلة مع قائد قوات الدفاع الإسرائيلية الحالي كان سابقةً بالنسبة للصحف السعودية، فقد كان لتقييمه للتهديد الإيراني صدى قوي في معظم أنحاء الخليج. ومع ذلك، فإن عرضه لتبادل المعلومات الاستخباراتية مع “الدول العربية المعتدلة” ينبغي أن يفسر على أنه يعني أن القليل جدًّا يجري تبادله في الوقت الراهن، والذي سيشكل الحد الأدنى من التعاون عند مواجهة تهديد رهيب مشترك. أو على الأقل، فإن هناك الكثير مما يمكن عمله.
لقد استند الموقف السعودي والعربي الأشمل بخصوص تحسين العلاقات مع إسرائيل إلى مبادرة السلام العربية، التي اقترحتها لأول مرة المملكة العربية السعودية عام 2002، واعتمدتها بعد ذلك جامعة الدول العربية ثم منظمة التعاون الإسلامي. ولم يتغير ذلك، على الرغم من أنه خلال العام الماضي أو نحو ذلك، كان هناك دلائل تشير إلى أن بعض الدول العربية، ومنها المملكة العربية السعودية، كانت على استعداد للنظر في تعديل الهيكلية التي يتم العمل بموجبها. وكانت مبادرة السلام العربية قد عرضت، في الأصل، تطبيعًا دبلوماسيًّا وتجاريًّا كاملاً بين إسرائيل والدول العربية والإسلامية في نهاية عملية السلام، وبعد الاتفاق على الوضع النهائي مع الفلسطينيين. وقد برزت إمكانية اتباع نهج مختلف، يقوم على نموذج من الخطوات المتبادلة المتزامنة والمحدودة لبناء الثقة وتنمية العلاقات. ومن شأن ذلك أن يسمح لدول الخليج باتخاذ خطوات تجاه إسرائيل فيما يتعلق بالطيران المدني أو التجارة أو الاتصالات الدبلوماسية المحدودة مقابل الإجراءات الإسرائيلية بشأن القضايا الفلسطينية مثل الحد من النشاط الاستيطاني أو تخفيف الحصار المفروض على غزة.
لا يمكن لأي خطوة ترمي إلى إضافة ديناميكية “من الخارج إلى الداخل” للسلام الإسرائيلي الفلسطيني أن تبدأ إلا بمثل هذه التدابير المحدودة والمتزامنة، على أمل بناء حلقة فعالة لا تعمل على تطوير العلاقات العربية – الإسرائيلية فحسب، وإنما تساعد عملية السلام أيضًا. لكن الموقف الرسمي السعودي يناقض الموقف الإسرائيلي. وتصر الرياض على أنه لم يتغير شيء، وأن مبادرة السلام العربية لا تزال هي الأساس الوحيد للمضي قدمًا. لا بد أن الحقيقة تكمن في مكان ما بين الروايتين المتناقضتين الإسرائيلية والسعودية. ومن الواضح أن القادة الإسرائيليين متورطون في بعض المبالغات المحسوبة على الأقل. ولكن، قد يكون هناك فعلاً قدر أكبر من التواصل، وربما بعض أشكال التعاون المحدود الهادئ الذي يتنامى خلف الكواليس. ومع ذلك، فلا يمكن للعلاقات السرية أن تكون أساسًا لعلاقة جديدة، عدا عن إقامة شراكة إستراتيجية، حتى ولو ضد إيران.
كل هذا الكلام، الذي تحركه إلى حد كبير إدارة ترامب والحكومة الإسرائيلية، عن أجندة نشطة تتبع أسلوب “من الخارج إلى الداخل” عزز الانطباع الخاطئ الواسع الانتشار، ولا سيما في الشرق الأوسط، بأن هناك شراكة إسرائيلية عربية لمواجهة إيران. ما غذّى القلق العميق لدى الفلسطينيين، وخاصة في احتمال تبادل التدابير المحدودة المتزامنة بين إسرائيل ودول الخليج العربية. وذلك لأن الحركة الوطنية الفلسطينية لم تحقق سوى اثنتين من المزايا الرئيسية التي لا جدال فيها منذ أواخر الستينيات: الوضع الدبلوماسي الدولي لمنظمة التحرير الفلسطينية، والسيطرة الفلسطينية على عملية صنع القرار الخاصة بها، وخاصة فيما يتعلق بإسرائيل، خالية من التأثير غير المبرر من الحكومات العربية.
ويبدو أن احتمال التوافق والانسجام، وهو الطريقة الوحيدة التي يمكن بها التقدم في تحقيق أسلوب “من الخارج إلى الداخل”، يهدد بشدة هذه النقطة الأخيرة. فإذا وافقت الدول العربية على تدابير متبادلة محدودة مع إسرائيل، فلن يُلزم ذلك الفلسطينيين بالتحديد بأي شيء. ومع ذلك، فإن العديد من الفلسطينيين سيعتبرون ذلك بالتأكيد بمثابة إجهاض لخياراتهم وتقديم تنازلات حقيقية نيابة عنهم، دون موافقتهم، وبمنفعة مبهمة لقضيتهم. إن مشاركة الفلسطينيين في العديد من التبادلات المتزامنة لبناء الثقة مع إسرائيل –والمثيرة للخلاف ومن ضمنها اتفاقيات أوسلو– ما زالت من دون مقابل إلى حد كبير. ويبدو أنها غير ذي صلة لأن تلك القرارات كانت فلسطينية.
وقد تفاقمت هذه المخاوف إلى حد كبير من خلال تقرير نقلت عن مصادر ضعيفة وغير موثوقة جدًّا في صحيفة نيويورك تايمز أشار إلى أنه خلال زيارة الرئيس الفلسطيني محمود عباس الأخيرة للرياض، عرض ولي العهد السعودي محمد بن سلمان عليه “خطة أمريكية” للسلام لا تصب في صالح الفلسطينيين بالمرة، وتم تهديده لغرض القبول بها. ولا توجد أية مؤشرات موثوقة على أن مثل هذه الخطة قد وضعت في صيغتها النهائية، وأنها كانت موضوع محادثات عباس في الرياض، أو أن المملكة العربية السعودية تحتضنها، ناهيك عن محاولة فرضها على الفلسطينيين. ومع ذلك، وبصرف النظر عن مدى ضعف هذه التقارير غير المُوثقة، فقد عممت على نطاق واسع وعملت على تضخيم المخاوف لدى الفلسطينيين بأن التقارب المناهض لإيران بين الدول العربية والولايات المتحدة وإسرائيل سيكون على حسابهم في المقام الأول.
إذا كان مثل هذا التقارب الثلاثي في صميم رؤية إدارة ترامب لمواجهة إيران وتعزيز السلام في الشرق الأوسط، فإن إعلان القدس لم يؤد إلا إلى فشل أي آفاق جدية لتحقيقها. وكان حلفاء واشنطن الرئيسيون -السعودية والإمارات ومصر والأردن– قد حذروا ترامب بشدة بأن لا يقدم أي إعلان عام، وأعربوا بكل صرامة عن مخاوفهم اللاحقة. في الواقع، يبدو أن البيت الأبيض قد رد على هذا الانتقاد القوي، ولا سيما من المملكة العربية السعودية، عندما أصدر ترامب بيانه الصارم وغير المسبوق الذي دعا فيه “قيادة المملكة العربية السعودية إلى … السماح بوصول الأغذية والوقود والمياه والدواء بشكل كامل إلى الشعب اليمني الذي هو بأمس الحاجة إليها”.
إن الانفتاح على إسرائيل، مهما بلغ حذره وأهميته الإستراتيجية، حتى ولو نفذ تحت عنوان مبادرة السلام العربية، سيكون دائمًا صعبًا سياسيًّا على دول الخليج العربية. وقد أدى إعلان القدس لترامب إلى زيادة هذه التعقيدات بشكل كبير. وإذا كان هنالك جانب إيجابي لعباس والفلسطينيين، فسيكون بالتأكيد التخفيف الكبير من الضغط عليهم من الدول العربية فيما يتعلق بعملية السلام الآن.
ليست القدس (ولم تكن) مجرد قضية وضع نهائي، ومظهرًا رئيسيًّا من مظاهر الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. بل هي أيضا رمز سياسي قوي في جميع أنحاء العالمين العربي والإسلامي ومصدر قلق ديني كبير للمسلمين. حاول ترامب التخفيف من هذا القلق الديني من خلال مطالبته لجميع الأطراف “بالحفاظ على الوضع الراهن في الأماكن المقدسة في القدس، بما في ذلك جبل الهيكل، المعروف أيضًا باسم الحرم الشريف”. لكن ذلك، وملاحظته الغامضة: “نحن لا نتخذ موقفًا من أي قضايا تتعلق بالوضع النهائي، بما في ذلك حدود السيادة الإسرائيلية في القدس، أو حل الحدود المتنازع عليها”، لن تفعل شيئًا يذكر ليعادل ردة الفعل الدبلوماسية والسياسية العنيفة في العالم العربي.
ما لم يتحرك البيت الأبيض بسرعة للتوضيح بأن اعتراف الولايات المتحدة بالقدس عاصمة لإسرائيل لا ينطبق إلا على القدس الغربية (كما حصل مع البيان الروسي 6 نيسان/أبريل الذي لم يلقَ سوى احتجاج بسيط)، فإن آفاق التقدم في السلام الإسرائيلي الفلسطيني سوف تتقلص بشدة. وبالإضافة إلى ذلك، فإن آفاق مبادرة “من الخارج إلى الداخل”، أو على نطاق أوسع تطوير انفتاح جديد بين إسرائيل ودول الخليج العربية سيكون معقدًا جدًّا في أحسن الأحوال، ومن المحتمل جدا أن تكون مستبعدة في المستقبل المنظور.