دول الخليج العربية هي أكثر الدول ممن لا تشارك في الصراع الدائر في العراق التي يمكن أن تتأثر بنتيجة المعركة في الموصل. وعلى وجه التحديد، كشفت الحرب الكلامية التي نشبت بين الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي حول الدور التركي في العراق عن عددٍ من أهم التخوفات الجوهرية التي تراودهم. وحالما بدأ أخيرًا الهجوم لاستعادة الموصل من الحكم الوحشي لتنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (“داعش”)، أصرّت تركيا بشكل غير متوقع على الاضطلاع بدور مباشر في الحملة. وبالفعل، تؤكّد أنقرة أنها قد بدأت فعليا في التمهيد للهجوم بالقصف المدفعي على الرغم من أن القادة العراقيين ينفون هذا الأمر. ولا شك في أن الدول الخليجية تنظر بمزيج من الطمأنينة والقلق إلى تدخل القوات التركية المفاجئ في الصراع والدور الذي تضطلع به تركيا بحزم متزايد في العراق بصورة عامة، وبالتالي فإن موقفها متناقض بعض الشيء. فالجرأة التي تتعامل بها أنقرة إزاء الموصل تفيد مصالح الدول الخليجية وتضرّ بها في آن، كما وأنها تقدّم لها مجموعة من التحديات والفرص المعقّدة. إلا أن الأثر الرئيسي لهذه الحادثة الجانبية المعرقلة على الجهود الرامية إلى طرد “داعش” من الموصل سيتمثل بمضاعفة عزم الدول الخليجية على الاضطلاع بدور مهم، وإن بشكل غير مباشر، في رسم معالم حصيلة الصراع وعواقبه. .
لقد نتج تدخّل تركيا في الصراع عن عدة مخاوف حيوية ساورت أنقرة، أبرزها تخوّف تركيا من نفوذ القوات الكردية وسلوكها في المنطقة، خصوصًا وأن صراعها الذي نشب منذ عقود من الزمن مع “حزب العمال الكردستاني” ذي الميول الانفصالية قد استعر في الأشهر الأخيرة. إذ اغتنم “حزب العمال الكردستاني” وحلفاؤه الفوضى الحاصلة في سوريا وانسحاب قوات الحكومة السورية من بعض المناطق الكردية في شمال سوريا، فعمدوا إلى إنشاء منطقتين كرديتين تتمتعان بحكم ذاتي على طول الحدود الجنوبية لتركيا. وفي أيلول/سبتمبر، تدخّلت القوات التركية في شمال سوريا بحجة طرد قوات “داعش” من جرابلس. إلا أن نيتها الفعلية كانت منع القوات الكردية الموالية “لحزب العمال الكردستاني” من الربط بين قطاعين كبيرين في الأراضي التي يسيطر عليها الأكراد على طول الحدود التركية والحؤول دون إنشاء معقل كردي ضخم ومتصل يخضع لسيطرة “حزب العمال الكردستاني” على طول الحدود التركية الهشة.
والجدير ذكره هو أن “حزب العمال الكردستاني” برز كأحد القوات الأكثر فعالية في محاربة “داعش” وتحوّل في الواقع إلى حليف رئيسي للولايات المتحدة ضد مقاتلي التنظيم، متسببًا بتعاظم القلق التركي حيال هذا الأمر. فقد اضطلعت قوات “حزب العمال الكردستاني” بدور رئيسي في الكثير من الهجمات الرئيسية التي شُنت على “داعش” في شمال سوريا، كما شاركت في عدد من الحملات التي استهدفت “داعش” في العراق. ولصدّ ما تعتبره تركيا خطرًا متعاظمًا ناشئًا عن “حزب العمال الكردستاني”، أبقت على 600 إلى 800 جندي منذ العام 2014 داخل العراق في ناحية بعشيقة بالقرب من الموصل واستمرت في تدريب ميليشيات كردية وعربية أخرى. إلا أن العراق ندد بالوجود التركي على أراضيه وبات يتحدث بصراحة متزايدة عن افتقاره إلى الشرعية.
ويهدف المطلب التركي المتمثل بالاضطلاع بدور عسكري مباشر في العملية العسكرية في الموصل إلى الحؤول دون تعزيز قوة “حزب العمال الكردستاني” وأبرز حلفائه من جراء اشتراكهم في هذه الحملة. ولعل أبرز التحديات التي تواجهها تركيا تتمثل بالمحافظة على العلاقات الوطيدة التي تربطها بحكومة إقليم كردستان ذات الحكم الذاتي في العراق أو حتى بتعزيزها. فالدعم التركي لحكومة إقليم كردستان يهدف جزئيًا إلى ضمان تحقيق الطموحات القومية الكردية في العراق وليس في تركيا، على أن يتم ذلك على يد الأحزاب الكردية العراقية وليس على يد “حزب العمال الكردستاني”. إلا أن “حزب العمال الكردستاني” كان ناشطًا في شمال العراق على غرار تركيا نفسها، ولقد اضطرت حكومة إقليم كردستان إلى التوفيق بين علاقاتها الاقتصادية والسياسية الوطيدة مع تركيا وتعاطفها العرقي والقومي مع “حزب العمال الكردستاني”. ولذلك سوف تسعى تركيا إلى استخدام دورها المتعاظم في العراق لتعزيز علاقاتها بحكومة إقليم كردستان فيما تبقي “حزب العمال الكردستاني” تحت السيطرة. لكن المأزق بالطبع هو أن حكومة إقليم الكردستاني لا يمكن أن تقف فعليًا إلى جانب تركيا ضد “حزب العمال الكردستاني”، ما يعني أنه إذا لم يتم التعامل مع الوضع بدهاء، قد يؤدي الوجود العسكري المتنامي لتركيا في العراق إلى تقويض علاقاتها الوطيدة مع حكومة إقليم كردستان ويتسبب بالتالي بزعزعة السياسة التركية ذات التوازن الحساس حيال القومية الكردية.
فضلاً عن ذلك، وضعت تركيا الدور الذي تضطلع به في العراق في إطار حماية الأقلية التركمانية في منطقة بعشيقة، والدفاع عن المصالح الطائفية السنيّة على نطاق أوسع. وهذا الهدف هو الذي جعل من تركيا حليفة أمر واقع ومهمة للدول الخليجية في جهودها الرامية إلى الحد من انتشار النفوذ الإيراني في العالم العربي. وغالبًا ما تعارضت الطريقة التي اتبعتها تركيا في التعبير عن هويتها الطائفية الإسلامية السنية في الشرق الأوسط ككل مع بعض الدول الخليجية، وأبرزها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. ولطالما كان أردوغان وحزبه الحاكم على تحالف وثيق مع الإخوان المسلمين في العالم العربي، مع العلم بأن قطر هي الدولة الوحيدة التي اتخذت موقفًا مماثلًا طوال معظم العقد المنصرم. ولكن نتيجة الحد من النفوذ التركي وفشل أحزاب الإخوان المسلمين الكبير في البقاء في السلطة في الجمهوريات العربية بعد سقوط الحكم الدكتاتوري فيها، لم تعد هذه المسألة تشكّل مصدرًا مهمًا للخلاف بين أنقرة والرياض، مع أن الإمارات العربية المتحدة لا تزال ترفض رفضًا قاطعًا كافة أوجه الإسلام السياسي. علاوةً على ذلك، وفي ما يتعلق بالصراعات الإقليمية التي تطلق عليها في المقام الأول تسميات طائفية واسعة، كالحرب في سوريا والعراق، كانت تركيا والدول الخليجية حليفتين طبيعيتين لجهة دعم القوات الإسلامية السنية (طبعًا باستثناء الجماعات السلفية والجهادية كتنظيمَي “القاعدة” و”داعش”.)
وبالتالي، يبدو أن الدول الخليجية تدعم بصمت وبحذر الدور المتضخم لتركيا في شمال العراق، إذ ترى في تركيا قوةً موازنة للنفوذ الإيراني في العراق بشكل خاص وفي الشرق الأوسط بشكل عام. إلا أنها تتخوف من أن يؤدي التدخل العسكري التركي إلى توسيع دور الميليشيات الشيعية العراقية الموالية لإيران التي تعمل تحت راية “وحدات الحشد الشعبي”. إذ تقود حملة تحرير الموصل حاليًا قوةٌ مدربة على يد الدول الغربية ومؤلفة من 30000 عنصر من الحكومة العراقية والأكراد والقبائل السنية. وثمة تفاهم ضمني بين الجهات المعنية الرئيسية، بما في ذلك الحكومة العراقية وإيران، يقضي بعدم اقتحام “وحدات الحشد الشعبي” للتجمعات السكنية السنية خلال الحملة على الموصل. وقد أُقصيت هذه الوحدات بنجاح في السابق عن عملية تحرير الفلوجة بعدما ساد التخوّف من احتمال أن تحاول هذه القوات الثأر من السكان السنة العرب الذين يقطنون في هذه المدينة.
إذا تعيّن على القوات التركية المشاركة في القتال الدائر في الموصل والجوار بطريقة فعالة على اعتبار أنها تمثّل مصالح الطائفة السنيّة وتشكّل بوجه خاص قوة مجابهة لإيران وموازية لها، فقد يدفع هذا الأمر كلًا من “وحدات الحشد الشعبي” ورعاتها الإيرانيين إلى رفع درجة مشاركتهم في الصراع. وإذا نُشرت قوات “وحدات الحشد الشعبي” ردًّا على توسّع الدور التركي، فقد يترتب عن هذا الأمر عاقبتان. أولًا، لدى العديد من هذه التنظيمات تاريخٌ حافل بالأعمال الوحشية وبالممارسات التي تنتهك حقوق الإنسان بحق المدنيين العراقيين السنّة، ومن الممكن أن تتكرر هذه الأعمال على نطاق ضيّق أو واسع. فحتى الخشية من مثل هذه الاعتداءات قد تخلّف أثرًا في غاية السوء. ثانيًا، وفي ما يتعلق مباشرة بهذا الموضوع، قد يتخوف البعض من أن يؤدي التدخل المباشر للميليشيات الشيعية الطائفية في المراكز السكنية السنية إلى إحكام قبضة “داعش” وإلى انتشار القلق في صفوف السكان المستضعفين إلى درجة أن التنظيم قد يكتسب موجة مفاجئة من الدعم بدافع المخاوف الوجودية.
من هذا المنطلق، وفيما سترحب الدول الخليجية بالدور الذي ستضطلع به تركيا كقوة موازنة مجابهة لإيران، يساورها القلق من أن يؤدي هذا الدور أيضًا إلى تعزيز الدعم المحلي، ولربما الإقليمي أيضًا، الذي يحظى به تنظيم “داعش” إذا ما اتخذ مقاتلوه صفة المدافعين الفعالين الوحيدين عن السنة المستضعفين وعينوا أنفسهم حماة لهم من أعدائهم الطائفيين المتوحشين. ولكن، وعلى غرار معظم العرب وغيرهم كثر، تخشى الدول الخليجية من الخطابات ذات الصيغة العثمانية الحديثة التي يروج لها أردوغان وحلفاؤه لتبرير تدخلهم في العراق وموقفهم الإقليمي. إذ تعتبر تركيا حليفًا مهمًا لتحقيق العديد من الأهداف الجوهرية، ألا وهي التغلب على “داعش” والإطاحة بالرئيس السوري بشار الأسد والتصدي للنفوذ الإيراني.
مع ذلك، ثمة تخوف كامن من أن تسعى أنقرة مجددًا إلى أن تصبح قوة مهيمنة في الشرق الأوسط العربي، خصوصًا بالنظر إلى تاريخها الاستعماري. فقد تعتبر تركيا حليفًا سنيًا رئيسيًا في وجه إيران الشيعية، إلا أنه من المحتمل أيضًا أن تشكّل خطرًا غير عربي يحدق بالمصالح العربية وحتى باستقلال الدول العربية على الأمد البعيد. والواقع أن أحد خطابات أردوغان الأخيرة لم يكتفِ بالتلويح بخطر استياء تركيا التاريخي من فقدان ممتلكاتها الاستعمارية في مختلف أنحاء الشرق الأوسط والغبن الذي لحق بها من الغرب، إنما ألمح أيضًا إلى سعي تركيا لإعادة رسم الخريطة لتستعيد بعضًا من الأراضي التي كانت تستولي عليها في السابق. وتذمر أردوغان مؤخرًا قائلًا :”لم نقبل طوعًا بحدود بلادنا”، مضيفًا أن الانتقادات التي طالت الدور التركي في كل من سوريا والبوسنة والعراق لم تتفهم أن “كل جزء من هذه المناطق الجغرافية هو قطعة من روحنا.” وفي 21 تشرين الأول/أكتوبر، ذهب أردوغان إلى أبعد من ذلك، معلنًا أن “مدينة الموصل كانت لنا، راجعوا التاريخ.” وردّ العبادي أنه وفي حال حاولت القوات التركية أن تشارك في القتال في الموصل، فإن ما ينتظرهم لن يكون بمثابة “نزهة”.
وذكرت وكالة بي بي سي أنه، في ظل الحماسة الوطنية الناتجة عن جنون العظمة ونزعة التعصب القومي بعد الانقلاب، “فاضت وسائل الإعلام التركية بخرائط تظهر الأفق التوسعية التركية” وتعكس “خرائط وخطابات وحدوية تنادي باستعادة الأراضي القديمة وتوحيدها “. وفي حين لم يطالب أردوغان تحديدًا باسترجاع الأراضي التي كانت خاضعة للحكم العثماني في العراق أو سوريا، إلا أنه لا شك في أن هذا الخطاب يثير القلق في الأراضي العربية التي كانت خاضعة للحكم العثماني. أضف إلى أن الدول الخليجية التي تولي الأولوية للاستقرار الإقليمي فوق معظم الاعتبارات الأخرى في سياساتها، تجد هذا الخطاب الوحدوي مثيرًا للقلق. ومع أن هذه الدول لا تثق مطلقًا بالعبادي، إلا أن الغطرسة المطلقة التي نمّت عنها بعض تعليقات أردوغان تجاه رئيس الوزراء العراقي، بما في ذلك قوله “لست بمستواي” في 11 تشرين الأول/أكتوبر ومطالبته بأن يلزم حدوده، لن تلقى ترحابًا عند نظرائه العرب في الخليج، الذين سيتساءلون حتمًا عن “المستوى” الذي ينسبه إليهم أردوغان.
بناءً على كل هذه الأسباب، من المرجح أن يؤدي التوتر حول مسألة الموصل إلى زيادة وعي الدول الخليجية إلى حاجتها لإيجاد طريقة تضمن اضطلاعها بدور مهم في رسم طبيعة وحصيلة المعركة ضد “داعش”. فالتطرف ضد السنة والشيعة على حدٍّ سواء يشكل تهديدًا كبيرًا للدول الخليجية. وما يثير القلق الشديد هو احتمال أن تتمكن حملة الموصل فعلاً من تعزيز دور الميليشيات الشيعية الطائفية ومكانتها في العراق، ما يعود بالفائدة في الوقت عينه على “داعش” كونه يعزز مكانتها السياسية حتى فيما تنهال الضربات العسكرية على قواتها. وقد قال وزير الخارجية السعودي عادل الجبير في 17 تشرين الأول/أكتوبر: “نحن نرفض أي شكل من أشكال تدخل الميليشيات الشيعية. فإن ذهبنا إلى الموصل….أتوقع أن تكون ردود الفعل السلبية هائلة، وإذا وقعت أعمال قتل جماعي، قد تسفر عن حظ وفير للمتطرفين العنيفين وقد تسنح الفرصة لتنظيم “داعش” في تجنيد عناصر جدد. وقد يصبّ هذا الأمر الزيت على النار ويشعل الصراعات الطائفية الدائرة في المنطقة”. وكان وزير الخارجية التركي مولود تشاووش أوغلو قد التقى الجبير في 13 تشرين الأول/أكتوبر وحضر اجتماعًا لمجلس التعاون الخليجي يتمحور حول الموصل. وفي مؤتمر صحفي مشترك عُقد بعد لقائهما، ندّد الرجلان بالدور الذي تضطلع به الميليشيات الشيعية في الصراع. وعقب لقاء وزراء الخارجية، أصدر مجلس التعاون الخليجي بيانًا حذّر فيه من أن الأعمال التي تقوم بها قوات “وحدات الحشد الشعبي” في منطقة الموصل “قد تشعل الصراعات العرقية وتعرّض نجاح العملية للخطر.”
وفيما تشعر الدول الخليجية بالقلق حيال الهيمنة الحقيقية لدولة إيران، يساورها أيضًا القلق حيال الهيمنة المحتملة لدولة تركية تتبنى النهج العثماني. والطريقة الوحيدة التي تسمح للدول الخليجية بحماية مصالحها في العراق تتمثل باضطلاع هذه الدول بأقوى دور استراتيجي ممكن، وإن كان غير مباشر، في تحرير الموصل وإحلال الاستقرار فيها بعد الصراع. ولتحقيق هذه الغاية، تعهّدت الإمارات العربية المتحدة مؤخرًا بتقديم 50 مليون دولار لتمويل مساعي إعادة إعمار المدينة، كما التزمت الكويت منذ وقت طويل بالمساهمة في تحقيق هذا الهدف. ويجب أن ترتكز أهداف الدول الخليجية على هزيمة “داعش” مع الحرص على عدم فرض الحكم الشيعي على المناطق السنية المحررة والحفاظ على استقلال دولة العراق وسلامة أراضيها. وصحيحٌ أن هذا الهدف صعب المنال، إلا أن تحرير الموصل يشكّل فرصة أمام الدول الخليجية، حتى وإن كانت تعمل عن بُعد، لاستخدام نفوذها السياسي والمالي والدبلوماسي كي تضمن تعاون واشنطن وبغداد وأنقرة معها على منع خضوع الأراضي السنّية العربية المحررة لسيطرة إيران أو وكلائها. فإذا عجزت الدول الخليجية وشركاؤها عن حماية الحقوق الأساسية للسنة في العراق والحفاظ على أمنهم، سوف يثبت تنظيم “داعش” والتنظيمات المتطرفة الأخرى على المدى البعيد أنها وحدها القادرة على ذلك.