خلال شهر أغسطس/آب الماضي توصل المشاركون في المفاوضات النووية في فيينا، والهادفة لإحياء الاتفاق النووي بين إيران ومجموعة الخمسة زائد واحد، الموقع في 2015، والذي انسحبت منه إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب، إلى التفاهم على مسودة اتفاق من 25 صفحة. توقيع الاتفاق كان يتوقف على حلّ بعض “المسائل التقنية” العالقة بين إيران ووكالة الطاقة النووية، تتعلق هذه الأمور بإعادة تشغيل كاميرات الوكالة في المنشآت النووية الإيرانية، وتقديم إيران لشرح واف لوجود جزئيات يورانيوم في بعض المنشآت ما يثير أسئلة حول وجود برنامج نووي ذو تطبيقات عسكرية كانت تعمل عليه إيران قبل إلغائه. كما ظلت هناك قضايا سياسية خلافية بين واشنطن وطهران تتعلق بمطالب إيرانية، اعتبرتها واشنطن خارج إطار الاتفاق النووي، مثل إلغاء تصنيف الحرس الثوري الإيراني منظمة ارهابية دولية، وأخرى تتعلق بعقوبات لا علاقة لها بالبرنامج النووي. المفاوضات غير المباشرة حول هذه القضايا، والتي عقدت في الدوحة، قطر، أخفقت في حلها.
ما كان في حيز الممكن في الصيف، أصبح في حيز الصعب إن لم نقل المستحيل في الخريف. الاتصالات الديبلوماسية غير المباشرة التي كانت تجري بين إيران والولايات المتحدة في فيينا، ولاحقًا في الدوحة، حيث كان المسؤولون في الاتحاد الاوروبي يقومون بدور الوساطة، عُلِقت كليًا، بعد أن “وصلنا إلى طريق مسدود… ولذلك نحن لا نركز الآن على المحادثات النووية، ونحن بعيدون جدًا عن الاتفاق مع إيران” كما قال مؤخرا جون كيربي (John Kirby) منسق الاتصالات الاستراتيجية في مجلس الأمن القومي في البيت الأبيض في تصريحات صحفية. يوم الأربعاء قال وزير الخارجية انتوني بلينكن أنه لا يرى أي احتمال في المدى المنظور لتحقيق تقدم في المفاوضات النووية، وذلك بسبب المطالب الإيرانية التي لا علاقة لها بالاتفاق النووي، “والتي أوصلتنا إلى طريق مسدود،” كما وصفها بلينكن.
ولكن ما يجعل إحياء المفاوضات النووية في حيز المستحيل لم يعد مرتبطًا فقط بالقضايا النووية التقنية ومطالب إيران التعجيزية، التي نوقشت لأكثر من ستة عشر شهرًا في فيينا وظل بعضها عالقًا، بل بما يحدث منذ أربعين يومًا في شوارع طهران وغيرها من عشرات المدن والبلدات الإيرانية من قمع وحشي لتظاهرات احتجاجية سلمية يقوم بها المدنيون الإيرانيون، وخاصة النساء، وما تشهده منذ أسابيع أجواء أوكرانيا من خراب ودمار وحرائق تحمله المسيرات، إيرانية الصنع، التي تستخدمها روسيا لتدمير المراكز السكنية والبنى التحتية المدنية لإغراق أوكرانيا في ظلام شتاء قارس.
في ظل الأجواء والظروف الراهنة، لا واشنطن قادرة على توقيع اتفاق نووي مع إيران – حتى ولو رغبت بذلك – دون المجازفة بمعارضة داخلية قوية من قبل جميع الأعضاء الجمهوريين الخمسين في مجلس الشيوخ، إضافة إلى عدد نافذ من الأعضاء الديموقراطيين، إضافة إلى المعنيين بحقوق الإنسان ومعارضي الغزو الروسي لأوكرانيا. ولا طهران قادرة على تقديم أي مقترحات بناءة، ناهيك عن التنازل عن شروطها ومطالبها، في الوقت الذي تتهم فيه الولايات المتحدة (واسرائيل) بتأجيج التظاهرات الاحتجاجية ضد النظام الإسلامي. وفي غياب تحول جذري للغاية في موقف كل من واشنطن أو طهران، فإن احتمالات إحياء الاتفاق النووي، خاصة إذا استعاد الجمهوريون سيطرتهم على مجلسي الكونغرس، واستمرت الانتفاضة الشعبية الإيرانية بالاتساع، واستمرار التورط الإيراني بالحرب الأوكرانية، سوف تبقى شبه معدومة.
من الواضح أن التظاهرات الاحتجاجية في إيران، التي أدت إلى مقتل أكثر من 180 مدني حتى الآن، وضعت الغرب بشكل عام، وإدارة الرئيس بايدن بالتحديد، في وضع صعب وحتى محرج. منذ بداية ولايته والرئيس بايدن يحاول جاهدًا التوصل إلى احياء الاتفاق النووي مع إيران، وذلك في الوقت الذي تواصل فيه طهران تطوير قدراتها النووية، مثل تخصيب المزيد من اليورانيوم، وبناء أجهزة طرد مركزي متطورة أكثر. تأكيدات الرئيس بايدن وكبار مساعديه حول تمسكهم بالطرق الديبلوماسية لإحياء الاتفاق النووي، تتعارض مع التشدد الإيراني في المفاوضات، ومع القمع الدموي للتظاهرات الاحتجاجية التي تقوم بها الأجهزة الأمنية الإيرانية، وأخيرًا مع التطور العسكري الخطير الذي يمثله تسليح إيران لروسيا بالمسيرات القاتلة، ومضاعفات هذا الدور العسكري ليس فقط على الحرب الأوكرانية، بل على التوازن الأمني حول حوض البحر الأسود ومنطقة الخليج وشرق المتوسط، وعلى مصالح واشنطن ووجودها العسكري في هذه المناطق.
يكرر الرئيس بايدن القول أن الصراع العالمي الآن هو بين كتلة الدول الديموقراطية، التي تقودها الولايات المتحدة، وتكتل الدول الاوتوقراطية أو السلطوية، الذي يقوده الثنائي الروسي-الصيني، والذي تحتل فيه إيران مرتبة خاصة، حيث يعلو صوتها ضد “الشيطان الأميركي” أكثر من أي صوت آخر. وحين يرسم بايدن العالم بهذا الشكل فهو لا يستطيع إلا دعم المطالب العامة للحركة الاحتجاجية الإيرانية، مثل وقف الانتهاكات الصارخة لحقوق الانسان، ووقف القمع الدموي للتظاهرات السلمية، ووقف أعمال التعذيب والقتل في السجون الإيرانية.
حتى الآن تبين ردود الفعل الأولية لإدارة الرئيس بايدن تجاه الاحتجاجات الإيرانية، أنها تعلمت بعض الدروس الهامة من أخطاء الرئيس الأسبق باراك أوباما تجاه ما سمي “بالثورة الخضراء” في إيران في 2009 في أعقاب التظاهرات العارمة ضد ما اعتبرته أكثرية إيرانية من تزوير للانتخابات الرئاسية آنذاك. أوباما قرر عدم دعم التظاهرات علنًا، بحجة أن أي دعم علني سوف تستخدمه الحكومة الإيرانية لاتهام المتظاهرين بأنهم ينسقون مواقفهم وتحركاتهم مع الولايات المتحدة. وقبل أسابيع، أعرب الرئيس أوباما عن دعمه للحركة الاحتجاجية الراهنة في إيران، واعترف بأنه “أخطأ” في 2009 عندما لم يدعم التظاهرات آنذاك.
بعد مقتل الشابة مهسا أميني بعد أن أعتقلها عناصر ما يسمى “شرطة الأخلاق”، فرضت واشنطن عقوبات على هذه المؤسسة القمعية، وبدأت بتوفير الدعم التقني للمتظاهرين الإيرانيين في مجال الاتصالات الإلكترونية، وتسهيل استخدامهم لوسائل الاتصال الاجتماعي واستخدام شبكة الانترنت. ومع ذكرى مرور أربعين يومًا على مقتل الشابة أميني، يوم الأربعاء، فرضت واشنطن حزمة من العقوبات استهدفت 14 مسؤولًا إيرانيًا في الحرس الثوري وفي نظام السجون الإيرانية، إضافة إلى ثلاث كيانات إيرانية من بينها تلك التي تستخدم الوسائل السيبرانية للتجسس على الإيرانيين ورصد تحركاتهم.
ومع استمرار وتوسع رقعة الاحتجاجات الإيرانية، ازدادت حدة النقاش في واشنطن في الأوساط السياسية والأكاديمية حول زيادة الدعم الأميركي للانتفاضة الإيرانية. ويرى دعاة التصعيد أنه على الرئيس الأميركي أن يخاطب الإيرانيين مباشرة، وأن يعرب عن دعمه السياسي والأخلاقي والعملي للمتظاهرين، مثل توفير الوسائل التقنية لضمان قدرة المتظاهرين على الاتصال بين بعضهم البعض وتنسيق تحركاتهم، وأن يتبع ذلك بتجميد أو حتى بالانسحاب رسميًا من مفاوضات فيينا النووية، والتنسيق مع الحلفاء لفرض عقوبات إضافية ضد النظام الإيراني.
التدخل الإيراني العسكري في الحرب الأوكرانية، سوف يدفع بواشنطن إلى اعتماد مواقف متشددة أكثر تجاه إيران التي وضعت نفسها عمليًا في المحور العسكري الروسي، حيث تستخدم مسيراتها العسكرية ضد الأسلحة الأميركية وغيرها من الأسلحة التي تقدمها دول حلف الناتو لأوكرانيا. العداء الإيراني لمصالح الولايات المتحدة يتوسع من الخليج والشرق الأوسط إلى قلب القارة الأوروبية. صحيح أن المسيرات الإيرانية ليست متطورة مثل المسيرات الأميركية أو الإسرائيلية، إلا أن إيران تستخدم الحرب في أوكرانيا لتعزيز علاقاتها مع روسيا، وفي الوقت نفسه تطوير قدراتها العسكرية والتقنية، وربما الأهم من ذلك بعث رسالة للولايات المتحدة وإسرائيل تقول أن لديها قدرة على الردع في حال تعرضها لضربة عسكرية أميركية أو إسرائيلية. وهناك أيضا رسالة ضمنية لدول الخليج العربية بأن الترسانة الإيرانية من الصواريخ والمسيرات كبيرة وخطيرة، وقادرة على السيطرة على أجواء الخليج. هذا التسليح الإيراني لروسيا، قد يقلص من أي تحفظات جمهورية على دعم أوكرانيا عسكريًا في حال سيطر الجمهوريون على مجلسي الكونغرس في الانتخابات النصفية في الثامن من الشهر المقبل.
لا أحد يعلم في هذا الوقت المبكر إلى أين ستصل التظاهرات الاحتجاجية في إيران، ويمكن القول أن استمرارها يعني احتمال وصولها إلى قطاعات إيرانية اقتصادية هامة لمستقبل النظام، كما أن استمرار الانتفاضة، واستمرار قمعها الدموي يخلق احتمال حدوث شروخ في بعض الأجهزة الإيرانية الرسمية، خاصة وأن هذه التظاهرات تجري في الوقت الذي يعاني فيه المرشد الأعلى علي خامنئي، البالغ من العمر 83 عامًا، من مشاكل صحية صعبة. كما لا أحد يعلم بيقين إلى أين ستصل الحرب في أوكرانيا خلال الأشهر الستة المقبلة، ومعها الدور الإيراني. ولكن ما يمكن قوله ببعض اليقين، هو أن إدارة الرئيس بايدن سوف تجد نفسها واقفة على خط تماس طويل ومتوتر مع إيران يبدأ من مياه الخليج وينتهي بمياه البحر الأسود.