تعد مشاركة الإمارات العربية المتحدة في بينالي البندقية، والاعتراف بها كقوة معمارية رائدة، خطوة مهمة نحو التعامل مع القضايا الاجتماعية والسياسية، والأخذ بعين الاعتبار مدى مساهمة البيئة القائمة في مستقبل منصف ومستدام.
سُئل عبد الرحمن منيف، المؤلف السعودي الشهير الراحل مؤلف رواية “مدن الملح”، عن سبب اختياره هذا العنوان للكتاب. فأجاب أن المدن في المنطقة، على الرغم مما تحويه من صروح معمارية رائعة، فهي في نهاية المطاف عابرة، وسوف تختفي ببساطة عند أقل علامة على وجود مشكلة، ستختفي كما يذوب الملح في الماء. ومع عدم استبعاد الطبيعة العابرة لسكانها الحضريين، فإن مدن الخليج العربي وجدت لتبقى. في الواقع، على مدى العقود القليلة الماضية قاموا ببناء بنى تحتية متينة في سياق برنامج هائل للإنشاءات. والمفارقة المثيرة للسخرية، هي أن “الملح” شكل أساس المعرض الوطني للإمارات والحائز علي جائزة بينالي البندقية للعمارة لهذا العام.
يلمح عنوان المساهمة الإماراتية “أرض لَدِنَة”، إلى الموضوع الرئيسي للمعرض: إيجاد أسمنت صديق للبيئة مصنوع من محلول ملحي من النفايات الصناعية، ويتوافق، إلى حد كبير، مع التركيز الجديد على موضوع الاستدامة وحماية الموارد والتخفيف من آثار التغير المناخي. يعد هذا إنجازًا رائعًا، وخاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار أن الدولة العربية الوحيدة الأخرى التي فازت بهذه الجائزة هي البحرين في عام 2010.
بدلاً من التركيز على التصورات التقليدية، التي تصور المنطقة من خلال منظور جيوسياسي للصراع والعنف المتواصلين، أو الاستناد إلى بعض الصفات السحرية لحداثة القرن العشرين، التي ضاعت في مواجهة التطور المستمر، سعى معرض الإمارات إلى توسيع نطاقه. وبدلاً من اعتبارها مكاناً غريباً يحث علي الفضول، كان موضوع هذا العام يطمح إلى إظهار كيف يمكن للمنطقة أن تقدم مساهمة أساسية للخطاب المعماري المعاصر من خلال تقديم حلول واقعية وعملية للقضايا الملحة.
أرست مشاركة الإمارات في هذا الحدث على مدى السنوات القليلة الماضية الأساس لهذا التحول والإنجاز. في عام 2014، عندما بدأت مشاركتها في بينالي العمارة، كان التركيز على حداثة القرن العشرين. تم توجيه معرض 2016، “تحولات البيت الوطني الإماراتي“، برعاية هذا المؤلف، بعيدًا عن هذا النهج الذي يغلب عليه الطابع التاريخي من خلال استكشاف مدى إشغال المنزل في الوقت الحاضر، وكيف يشكل جزءًا لا غنى عنه من المشهد العمراني والحضري لدولة الإمارات. أخذ جناح 2018 هذا الأمر إلى ما هو أبعد من ذلك – حيث نظر القائمين على المعرض في فكرة “العمران الشاهق“، مشيرين إلى الحاجة لتحويل الانتباه إلى المساحات الحضرية الأصغر والأكثر تواضعًا.
أشار بعض النقاد إلى أن مثل هذه المشاركة ربما تغطي على مشاكل مستشرية في المجتمع الإماراتي وتحتاج إلى معالجة. تحدثت وكالة رويترز مؤخرًا عن ترحيل عمال أفارقة من دبي. وهناك قضايا قائمة باستمرار مثل التمييز في البيئة الحضرية وظروف معسكرات العمل. يمكن النظر إلى المشاركة في الأحداث الدولية والاحتفال بالجوائز بمثابة إلقاء هذه القضايا جانبًا. بدلاً من ذلك، تعد مشاركة الإمارات في بينالي البندقية، والاعتراف بها كقوة معمارية رائدة، خطوة مهمة نحو التعامل مع القضايا الاجتماعية والسياسية، والأخذ بعين الاعتبار مدى مساهمة البيئة المبنية في مستقبل منصف ومستدام.
هذه هي المرة العاشرة التي تشارك فيها الإمارات بمعرض على مساحة مخصصة تقع في منطقة أرسينال، والذي هو أحد الموقعين الرئيسيين المخصصين لاستضافة الحدث (الموقع الآخر هو جيارديني). تم اختيار المعماريين وائل الأعور وكينيتشي تيراموتو كقائمين على المشروع، بعد عملية تنافسية أجرتها المؤسسة المفوضة، مؤسسة سلامة بنت حمدان آل نهيان في أبوظبي. أنشأ القيمون مكتب واي واي للتصميم في دبي، وهي شركة معمارية متعددة التخصصات. ينحدر الأعور من أصل لبناني في حين أن تيراموتو من اليابان. السيرة الذاتية للأعور تصفه بأنه “يعمل بشكل دائم خارج حدود جغرافية”. يقدم المعرض نموذجًا أوليًا لصرحٍ فسيحٍ تم إنشاؤه من أسمنت صديق للبيئة مصنوع من محلول ملحي لمخلفات معاد تدويرها. وكما ذكر المفوض، فإن هذا الصرح يذكرنا “بالمنازل التقليدية المبنية بالشعاب المرجانية في الإمارات، والتي تشكل نموذجًا أوليًا من الصناعة اليدوية بمقاس 7×5 أمتار”. ويرافق النموذج الأولي صور كبيرة الحجم، قامت بتصويرها الفنانة الإماراتية المقيمة في نيويورك فرح القاسمي، لصبخات الإمارات، أو المسطحات الملحية، والتي شكلت مصدر إلهام لعملية البحث. يتضمن المعرض أيضًا مقطعًا صوتيًا مدته ثلاث دقائق يسجل قصة الصبخات، وعملية التحلية التي تُنتج المحلول الملحي، ورحلة البحث.
هنالك توافق ما بين المنشأة وبين الموضوع العام للبينالي، “كيف نعيش معًا”. وفقًا للقيِّم المعماري للـبينالي، هاشم سركيس، يسعى الموضوع إلى توفير “عقد مكاني جديد. في سياق اتساع الانقسامات السياسية وتزايد عدم المساواة الاقتصادية، ندعو المعماريين إلى تخيل المساحات التي يمكننا أن نعيش فيها معًا بسخاء”. وقد حدد عددًا من الطرق التي يمكن من خلالها تحقيق فكرة “العيش معًا”، من خلال التواصل عبر المساحات الرقمية والحقيقية، ومن خلال استكشاف طرق جديدة للسكن، من خلال النظر في الكيفية التي تُمكن المجتمعات من المطالبة بالإنصاف والاندماج، ومن خلال فحص المناطق الجغرافية الجديدة للتجمع، وما له أهمية خاصة بالنسبة لمساهمة الإمارات هو من خلال “العمل معًا ككوكب يواجه أزمات تتطلب اتخاذ إجراءات من الجميع لكي تستمر الحياة”.
يشارك في الحدث عدد من الدول العربية الأخرى. يستكشف جناح البحرين المشهد الحضري في المُحرَّق، وتأثير التنمية على أحواض المحار. إنه تأمل لكيفية تحقيق التوازن بين الحاجة إلى التنمية والاستدامة والحفاظ على الموقع التاريخي. تعرض مساهمة مصر، “شظايا مباركة”، سلسلة من اللوحات التي تمثل أشخاصًا عاديين ومتواضعين، ويستطيع الزوار تخيل أنفسهم بينهم. يسترجع العراق، الذي يشارك لأول مرة في البينالي، بداية إرثه المعماري، “العمارة الدارجة والمراكب المائية في بلاد ما بين النهرين القديمة”، في مسعى لإيجاد صلة مع محيط مدينة البندقية من خلال فحص بناء القوارب، “القوارب تجمع الناس معًا”. يرتبط المعرضين المصري والعراقي ارتباطًا هشًا بالبيئة المبنية. يعرض جناح الكويت قضية أقوى، حيث تتأمل الصراع، أو “حروب المكان”، بين المدينة الرئيسية والمساحات المترامية الأطراف التي تحيط بالمركز الحضري. يعرض المعرض سجادة من تصميم القيمين على الجناح “مستوحاة من المقابلات التي تم جمعها خلال المشروع الذي سبق البينالي… وهي تفسير مجرد للروايات والخرائط التي تصف المناطق النائية”. مشاركة معرض لبنان، المسماة “سقف الصمت”، “تستحضر موضوع العيش المشترك من خلال فكرة الفراغ كشرط زماني ومكاني للفن المعماري”. تتوسط المنشأة 16 شجرة زيتون، وبينما يسير الزوار في الساحة، تصادفهم آثار زجاجية على الأرض، تمثل بصمات “لآثار محطمة” تستحضر تأثير انفجار أغسطس/آب 2020 في ميناء بيروت. من خلال هذه التجربة، تهدف القيّمة إلى تقديم الفراغ كشكل آخر من أشكال الفن المعماري – فضاءات تدعو إلى التأمل والتفكير. جاء الجناح السعودي، “الإسكان”، تجاوبًا مع جائحة فيروس كورونا المتواصلة. حيث يبحث في كيفية إدارة تهديد العدوى من خلال الإنشاءات الدائمة والمؤقتة، وعلى وجه التحديد، “كيف تستوعب البيئة القائمة والنسيج الحضري ظروف الطوارئ، وكيف يتحول معنى هذه المساحات واستخداماتها مع مرور الوقت”.
كما هو الحال مع الإمارات، ابتعدت مساهمات الدول العربية، إلى حد كبير، عن التمثيلات التقليدية ووجهات النظر المنقحة بالإضافة إلى المناقشات المتواصلة المتعلقة بالحداثة. بدلاً من ذلك، أخذوا يتناولون القضايا الملحة المتعلقة بالبيئة الطبيعية والتغير المناخي والأشكال الجديدة للإسكان. وهكذا قاموا بتقديم مساهمة حيوية للمحتوى الحضري والمعماري المعاصر. ولكن يبقى جناح الإمارات مختلفًا من عدة نواح. تتمثل إحدى النواحي في أن المهيمن على المعرض كان منشأة فعلية، تم إنشاؤها خصيصًا لهذا الحدث. للوهلة الأولى، هي ليست مصدر إلهام خاص لكونها تبدو كأنها كهف بدائي. ولكن المثير للاهتمام هو، كما أشار المفوض، أن الإلهام جاء من المنازل التي كانت تُبنى من حجر المرجان في المنطقة، وهي مادة غير مستدامة إلى حد ما، مما أدى إلى استنزاف أحد الموارد الثمينة. ومع ذلك، ولنضع ذلك جانبًا، فإن المساهمة لفتت انتباه لجنة التحكيم الدولية بقيادة المهندس المعماري الياباني كازويو سيجيما، التي أشارت إلى أن الإمارات فازت بالجائزة لأنها “تجربة جريئة تشجعنا على التفكير في العلاقة بين النفايات والإنتاج على الصعيدين المحلي والعالمي، وتفتح الطريق أمام إمكانيات بناء جديدة بين الحرف والتكنولوجيا العالية”. من الممكن لهذه الإمكانيات أن تسهم في تطوير مستقبل حضري مستدام.
ومع ذلك، لم يسلم البينالي من الانتقادات. وصفه أحد النقاد بأنه “موقف مفاهيمي”. وأشار آخر إلى أن “العديد من المشاريع المميزة كانت أشبه برحلات خيالية أكثر من كونها مخططات لبيئات قائمة”، بما في ذلك تمثال نصفي لنفرتيتي مصنوع من شمع العسل، واقتراحات لتغذية العالم من الطحالب الدقيقة. علق البعض أيضًا على الطبيعة السياسية المتأصلة في فكرة “العيش معًا”. اقترح معرض قام به استشاري أسباني إعادة تطوير حي بالقرب من باريس لاستيعاب المهاجرين الأفارقة من خلال تصميم سكن جماعي وسوق ومحطة مترو الأنفاق. أعادت أوزبكستان بناء قسم من منزل موجود في المحلة، وهو مجمع إسكاني منخفض الارتفاع وعالي الكثافة مع مساحات مشتركة موجودة في جميع أنحاء آسيا. هذه الاستكشافات الأكثر إثارة هي ما تفتقده مساهمات الدول العربية، حيث اختارت التغاضي عن الموضوعات الاجتماعية والسياسية، والتركيز بدلاً من ذلك على الموضوعات التي تخاطب جمهورًا دوليًا وتتبنى موضوعات تبدو أكثر عصرية.
من الضروري استغلال هذه الفرصة. إن الفوز بمثل هذه الجائزة المرموقة يثبت أن الإمارات يتم الاعتراف بها لدورها في استكشاف أحدث الموضوعات المعمارية. من الممكن للمساهمات المستقبلية أن تتقدم بهذا الإحساس الجسور بشكل مفيد لتُظِهر أن الإمارات لا تتردد في كشف المظالم، وأنها تهدف إلى تحقيق مستقبل مستدام حقيقي – مستقبل يشمل الجميع ومفتوح للجميع. وبهذه الرؤية المتفائلة، يمكن وضع حد للهاجس الكئيب لمنيف الذي عبر عنه في “مدن الملح”، ابتداءً من المنشأ الذي استخدم هذه المادة مما يمهد الطريق نحو مستقبل واعد.
مع اقتراب عام 2024 من نهايته، لا يزال عدم اليقين يخيم على أسواق النفط بسبب المخاطر الجيوسياسية، وضعف الطلب الصيني الذي جاء أقل من المتوقع، والتطورات المتعلقة بالتحول في مجال الطاقة.
مع سعي ترامب لتحقيق زيادة هائلة في إنتاج النفط والغاز الأمريكي، وعرقلة صادرات النفط الإيرانية، فإنه لن يتردد في التدخل بقوة في سوق النفط.
ادعمنا
من خلال تفحصها الدقيق للقوى التي تعمل على تشكيل المجتمعات الخليجية والأجيال الجديدة من القادة الناشئين، يعمل معهد دول الخليج العربية في واشنطن على تسهيل حصول فهم أعمق للدور المتوقع أن تلعبه دول هذه المنطقة الجيوستراتيجية في القرن الحادي والعشرين.