هل الولايات المتحدة بصدد الانسحاب من الشرق الأوسط؟ بالتأكيد، هنالك الكثير من الناس في المنطقة يعتقدون أن هذا هو الحال، حتى أن مسؤولين كبارًا في إدارة الرئيس جوزيف بايدن قد حاولوا مؤخرًا طمأنة قادة دول الخليج والعامة بأن الولايات المتحدة ستبقى ملتزمة تجاه المنطقة.
لقد كان “الانسحاب” موضوعًا مناسبًا لإثارة الجدل حول المستوى الصحيح لالتزام الولايات المتحدة تجاه الشرق الأوسط. كان كاتب هذه السطور مخطئًا تمامًا، حيث عَنوَن مقالاً له في عام 2019 حول الموضوع “هل علينا أن نبقى أم ينبغي علينا الرحيل؟” ربما كان هذا الاحتفاء بهذا الخلاف ذكيًا (بالنسبة للبعض)، لكنه لم يكن دقيقًا. حتى أولئك الذين يؤيدون انسحاب القوات العسكرية الأمريكية من المنطقة لا يعتقدون أن على الولايات المتحدة أن تنفصل دبلوماسيًا واقتصاديًا. الأغلبية العظمى من أولئك الذين يدعون إلى “البقاء” لا يعتقدون أن هذا يتطلب من القوات الأمريكية احتلال العراق وأفغانستان عسكريًا، كما فعلت واشنطن لسنوات، ولذلك فهم يؤيدون قدرًا من “الانسحاب” من ذروة الالتزامات العسكرية للولايات المتحدة.
تقع الخيارات الحقيقية للسياسة في مكان ما بين “الالتزام” و”الانسحاب” – بين البقاء والرحيل. لا تزال الولايات المتحدة تحتفظ بشبكة واسعة من القواعد والمنشآت في الشرق الأوسط الكبير، ويتركز معظمها في الخليج. تندفع القوات البرية والبحرية والجوية الأمريكية إلى المنطقة عندما يعتقد صناع السياسة أن ذلك ضروري، ويتراجعون عندما تنحسر التهديدات التي يتصورونها. السؤال الصعب هو بالضبط ما هي التهديدات التي تتطلب ردًا عسكريًا قويًا من الولايات المتحدة لردع الأعمال المحتملة من قبل الدول المعادية، والرد على مثل هذه الأعمال والهجوم قبل وقوع مثل هذه الأعمال.
هل ينبغي على الولايات المتحدة استخدام القوة بشكل استباقي لاستبدال الأنظمة المعادية؟
في أعقاب هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، استخدمت إدارة الرئيس جورج دبليو بوش القوة العسكرية لتغيير الأنظمة في أفغانستان والعراق، تطبيقًا للنظرية القائلة بأن الأنظمة المعادية ستؤوي الإرهابيين، وربما تزودهم بأسلحة الدمار الشامل للقيام بمزيدٍ من الهجمات ضد الولايات المتحدة. إن إخفاق الولايات المتحدة في بناء دول مستقرة خلفًا لسابقاتها في العراق وأفغانستان، يجعل تكرار أي إدارة، في المستقبل القريب، للغطرسة في استخدام القوة العسكرية الأمريكية أمرًا مستبعدًا.
هل ينبغي على قوات الولايات المتحدة أن تحمي الأنظمة الصديقة من الهجمات الخارجية؟
إن سجل أداء الولايات المتحدة واضح في هذا المجال. إن الغزو السافر عبر الحدود الدولية للدول الصديقة هو أمر سوف تستخدم الولايات المتحدة القوة لمواجهته، كما فعلت في حرب الخليج عام 1991 بعد الغزو العراقي للكويت. أما إذا كان ينبغي عليها أن تستمر في القيام بذلك فهذا سؤال مفتوح. في حين أنه من المقبول عمومًا تسمية العديد من دول الشرق الأوسط بـ “حلفاء” الولايات المتحدة (إسرائيل ومصر والسعودية والأردن ودول الخليج الصغيرة)، إلا أنه ليس لدى الولايات المتحدة معاهدة تحالف تُلزمها بأن تهب للدفاع عن هذه البلدان، كما تفعل مع حلفائها في الناتو واليابان. إسرائيل بشكل أساسي قادرة على الاعتناء بنفسها بما لديها من جيش هو الأقوى في المنطقة. ومن الصعب تخيل أن مصر عاجزة عن التعامل مع احتياجاتها الأمنية العسكرية ضد أي هجوم محتمل، ما لم تنهار معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية. أما البلدان المذكورة الأخرى فأوضاعها أقل أمانًا.
هل الوجود العسكري للولايات المتحدة في دول الخليج يردع هجومًا تقليديًا ضد هذه الدول؟
يعد قيام إيران أو العراق بغزو عسكري تقليدي لإحدى هذه الدول أمرًا مستبعدًا جدًا، لكن هناك أنواع أخرى من الهجمات هي الأكثر احتمالًا. يمكن القول بأن البنية التحتية العسكرية الأمريكية في دول الخليج هي بوليصة تأمين، الأمر الذي يقلل، بشكل كبير، من هذه الفرص قليلة الاحتمال، ولكنها كبيرة التأثير، مثل غزو العراق للكويت عام 1990. كما يمكن القول أيضًا إن الوجود الأمريكي في هذه الدول يمكن أن يدعو إيران للانتقام منها، إذا ما وجدت الولايات المتحدة نفسها في مواجهة مسلحة مع الجمهورية الإسلامية.
هل ينبغي على الولايات المتحدة استخدام القوة العسكرية لحماية الأنظمة الصديقة من الاضطرابات الداخلية؟
إن الولايات المتحدة لن تقوم باستخدام القوة العسكرية للحفاظ على الأنظمة الصديقة ضد شعوبها. فهي لم تفعل ذلك لشاه إيران في 1978-1979، ولا للرئيس المصري حسني مبارك في 2011. سيبقى الحكام الموالون للولايات المتحدة وحيدين إذا انتفضت شعوبهم ضدهم. أما الانخراط سرًا فهذا شيء آخر، كما في حالة الانقلاب المدعوم من الولايات المتحدة، والذي أطاح برئيس الوزراء الإيراني محمد مصدق عام 1953.
هل ينبغي على الولايات المتحدة استخدام القوة لحماية تدفق النفط بحرية من الخليج؟
مرت عقود، وصناع السياسة الأمريكيون يقولون إن الوجود العسكري في الخليج كان أولاً، وقبل كل شيء، لحماية التدفق الحر للنفط. خاضت البحرية الأمريكية عددًا من الاشتباكات ضد إيران في 1987-1988، عندما هددت القوات الإيرانية شحنات النفط الكويتي والسعودي، وبلغت الاشتباكات ذروتها بإسقاط طائرة ركاب إيرانية مدنية من قبل حاملة الطائرات يو. إس. إس. فينسينز (USS Vincennes) في يوليو/تموز 1988. أسفر الغزو العراقي للكويت في عام 1990، والعقوبات الدولية اللاحقة، عن إخراج أكثر من 5 ملايين برميل نفط يوميًا من السوق. بذلت الولايات المتحدة جهودًا عسكرية هائلة لصد الغزو. ومع ذلك، عندما هاجمت إيران (أو وكلاؤها) منشآت نفطية سعودية رئيسية في منطقة بقيق وخريص في سبتمبر/أيلول 2019، ما أدى إلى إخراج حوالي 5 ملايين برميل يوميًا من السوق، بشكل مؤقت، امتنعت إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب عن الرد بإطلاق النار.
هنالك ثمة تساؤلات حول مدى أهمية نفط الخليج لأمن الطاقة في الولايات المتحدة، نظرًا لتعافي إنتاج الطاقة في الولايات المتحدة. يضاف إلى ذلك الجدل المتواصل الذي يفيد بأن المنتجين المحليين لا يستطيعون استهلاك النفط، لذلك فهم مضطرون لبيعه. وبالتالي، فإن الحماية العسكرية مضيعة للمال والأرواح. ومع ذلك، فإن رؤساء الولايات المتحدة يرغبون، فعلاً، في امتلاك القدرة على الضغط على منتجي النفط الخليجيين بشأن مسائل الإنتاج، وللمساعدة الدبلوماسية في مجموعة من القضايا. فهل ما يزال بإمكانهم فعل ذلك إذا لم ير هؤلاء المنتجون واشنطن على أنها الضامن النهائي لأمنهم؟
هل ينبغي على الولايات المتحدة استخدام القوة لمنع الدول المعادية من امتلاك أسلحة الدمار الشامل؟
كانت حجة أسلحة الدمار الشامل هي المبرر الرئيسي العام لغزو الولايات المتحدة للعراق في عام 2003. ولم ينته ذلك الأمر على خير. من ناحية أخرى، حققت إسرائيل نجاحًا أكبر في توجيه ضربات لمرة واحدة ضد المنشآت النووية في العراق وسوريا، على الرغم من وجود دليل على أن الضربة التي وجهت للعراق في عام 1981 أدت إلى تسريع برنامج صدام حسين لامتلاك القدرة النووية. والسؤال المباشر الذي يواجه واشنطن في هذا الشأن هو البرنامج النووي الإيراني. لا يوجد دليل على أن الإيرانيين قد وصلوا إلى نقطة التسليح النووي، ولكن هناك الكثير من القلق من أنهم قد يفعلون ذلك. كررت إدارة بايدن موقف الإدارات السابقة بأنها لن تتسامح مع امتلاك إيران لقدرات الأسلحة النووية. كانت جميع الإدارات السابقة، مؤخرًا، على استعداد لاستخدام وسائل سرية، عادة بالتعاون مع إسرائيل، لردع الطموحات النووية الإيرانية. من المرجح أن يكون بايدن على استعداد أيضًا لاتخاذ إجراءات سرية. ومع ذلك، مع المفاوضات الجارية، حاليًا، بشأن العودة للاتفاق النووي مع إيران التي يبدو أنها تتجه نحو الفشل، فقد يواجه الرئيس بايدن في المستقبل القريب خيارًا صارمًا يتمثل بين دعمه لضربة إسرائيلية للمنشآت النووية الإيرانية أو أن يأمر شخصيًا بمثل هذه الضربة.
إذا كان التدخل الأمريكي في الشرق الأوسط قد بلغ ذروته في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، مع الزيادة المفاجئة لعدد العناصر العسكرية في العراق وعشرات الآلاف من القوات في أفغانستان، فإن الوجود الأمريكي الحالي يعكس بالتأكيد شيئًا من الانسحاب. من غير المتوقع أن يكون أي رئيس للولايات المتحدة، في المستقبل القريب، على استعداد للعودة إلى هذا المستوى من التورط العسكري. ومع ذلك، ومن الواضح، بالدرجة نفسها، أيضًا أن الأفكار الأكثر تطرفًا بشأن “الانسحاب” الإقليمي للولايات المتحدة مستبعدة إلى حد كبير. إن الجدال حول سياسة الولايات المتحدة في الشرق الأوسط يحتاج للابتعاد عن الأفكار المجردة مثل “الالتزام” مقابل “الانسحاب” والانخراط في المسائل الحقيقية حول المصالح التي تبرر وجود القوة العسكرية الأمريكية في الشرق الأوسط والتهديدات التي تبرر استخدام هذه القوة.