مرة أخرى، يجد النظام الثيوقراطي الإيراني نفسه في مواجهة دموية مع شعبه خلال الأسبوعين الماضيين، بعد انتشار التظاهرات الاحتجاجية كحريق تحمله رياح عاتية إلى عشرات المدن والبلدات في جميع أنحاء البلاد منذ مقتل الشابة مهسا أميني، البالغة من العمر 22 سنة، بعد أن اعتقلتها عناصر تابعة لما يسمى “شرطة الأخلاق” بحجة أنها لم تكن ترتدي حجابها بشكل لائق. حتى الآن وصل حصاد الدم إلى أكثر من 75 قتيلا مدنيًا، من بينهن شابات إيرانيات لم يترددن في تحدي سلطات القمع والترهيب وهّن يحرقن الأحجبة، وفقًا لمنظمات حقوق الإنسان الإيرانية التي تراقب البلاد من الخارج. الجرحى بالمئات، أما المعتقلين فبالألاف.
تزامنت هذه الظاهرة الاحتجاجية في إيران، مع ازدياد وتيرة وحدة الاحتجاجات الشعبية في روسيا ضد قرار الرئيس فلاديمير بوتين إعلان التعبئة العسكرية لتجنيد مئات الألاف من الشباب الروس لزجهم في أتون الحرب في أوكرانيا، ما أدى إلى هجرة مئات الألاف من الروس الشباب هربًا من الخدمة العسكرية الإلزامية، وهجرة عائلات بأكملها إلى الدول المجاورة في ظاهرة أعادت إلى الأذهان اضطرار مئات الألاف من الأوكرانيين إلى الهجرة في الأسابيع والأشهر الأولى التي عقبت الغزو الروسي في فبراير/شباط الماضي. اللافت أن النظامين، الحليفين المحاصرين دوليًا بعقوبات اقتصادية خانقة، سارعا إلى توجيه أصبع اللوم إلى الولايات المتحدة، وذلك في رد فعل تلقائي كان متوقعًا منذ بدء الاحتجاجات.
تزامن الاحتجاجات في دولتين متسلطتين ومعاديتين للولايات المتحدة ومصالحها في أوروبا والشرق الأوسط ومنطقة القوقاز، يعني أن ردود الفعل الأميركية هذه المرة، والتي اتسمت بتأييد سريع وتعاطف رسمي مع تطلعات وأهداف التظاهرات الاحتجاجية، سوف تلعب دورًا هامًا أكثر مما كان عليه الدور الاميركي المتردد والبطيء خلال الاحتجاجات السابقة، التي شهدتها إيران في 2009 و2019، وتلك التي شهدتها روسيا بين 2011 و2013. موقف واشنطن من الاحتجاجات، وما يمكن أن تفعله الولايات المتحدة عمليًا لمساعدة المتظاهرين، (مثل توفير الأجهزة الإلكترونية المحمولة، لضمان قدرة المتظاهرين الإيرانيين على الاتصال والتنسيق فيما بينهم في حال حرمتهم السلطات من شبكة الانترنت ووسائل الاتصال الاجتماعي)، هي من بين العوامل الجديدة التي لم نراها خلال الاحتجاجات والانتفاضات السابقة.
وفي مؤشر لافت، سارعت وزراتي الخارجية والخزينة يوم الجمعة الماضي إلى إلغاء العقوبات التي تمنع تصدير تقنيات الاتصال الأميركية إلى إيران، لفتح المجال أمام ايصال مثل هذه التقنيات إلى المتظاهرين الإيرانيين. وفور القرار الأميركي، أعلن رجل الأعمال الأميركي النافذ أيلون ماسك (Elon Musk)، عبر الباحث الإيراني-الأميركي كريم سادجادبور (Karim Sadjadpour) في مؤسسة كارنيغي للأبحاث، الذي قال في تغريدات منسقة مع ماسك، أن الأخير، الذي يملك ويصنّع أنظمة أقمار صناعية محمولة للاتصالات الإلكترونية تعرف باسم ستارلينك (Starlink)، خوله بأن يقول إن هذه الأنظمة بدأت تنشط في إيران. وكان ماسك قد أرسل الألاف من هذه الأنظمة الصغيرة إلى أوكرانيا التي استخدمتها بفعالية وبسرعة لإعادة تشغيل شبكة الاتصالات الخاصة بها بعد أن قامت روسيا بتعطيل شبكة الاتصالات الأوكرانية قبل الغزو. وقال مسؤولون أميركيون في إيجازات صحفية خلفية أنهم يدرسون احتمال توفير تقنية ستارلينك للمتظاهرين الإيرانيين.
ردود الفعل الأميركية الاولية – من التلميح بأن واشنطن ستتصدى لأي خطة يتخذها النظام الإيراني لوقف شبكة الانترنت، إلى التعبير العلني عن دعم تطلعات وأهداف المتظاهرين – وضع إدارة الرئيس بايدن في موقع يختلف نوعيًا عن موقف إدارة الرئيس الأسبق باراك أوباما خلال تظاهرات ما سمي بالثورة الخضراء في 2009 احتجاجًا على انتخاب محمود أحمدي نجاد رئيسًا في انتخابات اعتبرها المتظاهرون مزيفة. آنذاك تردد أوباما في دعم المتظاهرين لأنه كان يجري اتصالات سرية مع النظام الإيراني بهدف التوصل إلى اتفاق نووي.
وهذا ما أكده مستشار الأمن القومي جايك سوليفان (Jake Sullivan)، الذي كان مساعدًا لوزيرة الخارجية آنذاك هيلاري كلينتون، حين قال قبل أيام أنه، مع غيره من المسؤولين، قد تعلموا درسًا مرّا من ترددهم وحذرهم خلال تظاهرات 2009. وأضاف في مقابلة تلفزيونية، “أحد أسباب ذلك الموقف في 2009 هو الاعتقاد بأنه إذا أعلنت أميركا عن دعمها للمتظاهرين فإنها ستضر بهم، بدلا من مساعدتهم”. وتابع، “وأهم ما يمكن أن تفعله الولايات المتحدة هو أن تكون حازمة وواضحة ومبدأيه في ردها على أي مواطنين في أي دولة يطالبون بحقوقهم وكرامتهم”. هذا الموقف الأميركي من الاحتجاجات سوف يزيد من صعوبة وصول مفاوضات فيينا إلى أحياء الاتفاق النووي الموقع بين إيران ومجموعة الخمسة زائد واحد، الموقع في 2015، والذي انسحبت منه إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب في 2018. وقال لنا سادجادبور، “في أفضل الحالات، المفاوضات مجمدة، ولن يكون من السهل على النظام الإيراني تبرير اتفاق مع واشنطن التي يتهمها بتأجيج التظاهرات، كما ستبرز تحفظات واعتراضات أميركية على توقيع اتفاق نووي مع إيران في غياب استراتيجية أميركية واسعة تجاه إيران، تأخذ بعين الاعتبار الانتهاكات المتمادية لحقوق الإنسان داخل إيران، ونشاطاتها التخريبية الإقليمية”. ويرى سادجادبور أن صحة المرشد الأعلى علي خامنئي المتدهورة هي عامل جديد قد يؤثر سلبًا على عملية صنع القرار في طهران.
لا أحد يعلم في هذا الوقت المبكر إلى أين ستصل الاحتجاجات في إيران، وما إذا كانت ستؤدي إلى خلق شروخ سياسية أو أمنية في نظام أثبت، خلال عمره الطويل (43 سنة)، قدرته واستعداده لاستخدام العنف المنظم لقمع التظاهرات، وهذا ما فعله بشراسة خلال انتفاضة 2009 والتظاهرات الشاملة في 2019. ولكن ما الذي يجعل هذه الحركة الاحتجاجية مختلفة عن سابقاتها، إذا كانت بالفعل مختلفة؟ يجاوب سادجادبور على هذا التساؤل بالقول، “احتجاجات 2009 كانت في جوهرها سياسية، ومرتبطة بنبذ نتائج انتخابات رئاسية محددة، كما أن تردد إدارة الرئيس أوباما في دعمها ساهم في احباطها”. ويتابع، “في المقابل التظاهرات الاحتجاجية في 2019 كانت منحصرة بالهموم الاقتصادية، وظل أفقها السياسي محدودًا”. ويضيف سادجادبور، “ولكن الاحتجاجات الحالية هي في جوهرها اجتماعية وثقافية، وتمس بقضية محورية بالنسبة للنظام الثيوقراطي وديمومته وطبيعته الرجعية، أي الحجاب الإلزامي”، التي يراها سادجادبور أحد الأعمدة الأيديولوجية الثلاثة للنظام الديني، إضافة إلى شعاري الموت لأميركا والموت لإسرائيل.
ويشير سادجادبور إلى أن النظام الإيراني يختلف عن الأنظمة السلطوية والأوتوقراطية الأخرى، مثل روسيا الاتحادية أو كوريا الشمالية أو فينزويلا، التي تبقى طبيعتها السلطوية محصورة إلى حد كبير في الفضاء السياسي، بعكس إيران الثيوقراطية التي تغطي طبيعتها السلطوية، إضافة إلى الفضاء السياسي، الفضاء الاجتماعي والفضاء الثقافي، “وهذا ما يجعل النظام السلطوي الإيراني نظامًا فريدًا من نوعه،” وهذا يعني أن المواطن المحبط سياسيًا في روسيا أو فنزويلا يمكنه الهروب من احباطه بشرب الفودكا أو الويسكي دون أي خوف من “شرطة اخلاق” غير موجودة تمنعه من احتساء الكحول، أو تقرر له أو لها ما هي الثياب المحتشمة المقبولة من الذين نصبّوا أنفسهم أولياء على الدين والدنيا. ويرى سادجادبور أن موقف النظام الإيراني من المرأة يرقى إلى مستوى التمييز أو العداء المؤسساتي.
ويرى سادجادبور أن الموقف الأميركي الأولي الإيجابي قابل للتطور، ما يعني أن واشنطن يمكن أن تساهم هذه المرة فعليًا في مساعدة أو تمكين المتظاهرين الإيرانيين. ويضيف أن أي استراتيجية أميركية ديناميكية ومتكاملة يجب أن تتصدى سياسيًا وماديًا لإيران في مجالات ثلاثة: طموحات إيران النووية، وطموحاتها الإقليمية، وانتهاكات النظام الواسعة لحقوق الإنسان في الداخل.
ويمكن ترجمة مثل هذه الإستراتيجية إلى حيز الواقع على سبيل المثال بشكل مماثل لإستراتيجية الولايات المتحدة خلال ولايات الرؤساء الديموقراطيين والجمهوريين تجاه الاتحاد السوفياتي قبل انهياره. خلال فترة الحرب الباردة وقعّت واشنطن مع موسكو اتفاقيات للحد من الأسلحة النووية والصواريخ العابرة للقارات والصواريخ متوسطة المدى وأنظمة التحقق من تنفيذ هذه الاتفاقيات، ولكن في نفس الوقت واصلت واشنطن انتقاداتها العلنية لموسكو بسبب انتهاكاتها لحقوق الانسان، وواصلت الضغط عليها للإفراج عن سجناء الضمير. وحرصت الحكومة الأميركية على تعريف العالم بهذه الشخصيات الروسية المعارضة لمضاعفة الضغوط على موسكو. أيضا الاتفاقيات النووية مع الاتحاد السوفياتي لم تمنع الولايات المتحدة من مواجهة العدوانية السوفياتية في العالم من خلال التصدي للاحتلال السوفياتي لأفغانستان ومساعدة المجاهدين الأفغان على تحرير بلادهم، كما تصدت للنفوذ السوفياتي (والكوبي) في أفريقيا، من أثيوبيا إلى أنغولا، وفي نيكاراغوا وغيرها من دول أميركا الوسطى أو الجنوبية.
خلال المفاوضات السرية بين إيران والولايات المتحدة، التي جرت في عمان، والتي سبقت المفاوضات الموسعة التي أدت إلى الاتفاق النووي في 2015، رفض الرئيس أوباما نصائح بعض مستشاريه، وأبرزهم المفاوض الرئيسي مع إيران الديبلوماسي المخضرم السفير وليام بيرنز (William Burns)، الذي عينه الرئيس بايدن مديرًا لوكالة الاستخبارات المركزية السي آي أيه، بالتصدي لنشاطات إيران التخريبية الإقليمية خلال المفاوضات النووية. ووفقًا لما قاله بيرنز بعد تقاعده من وزارة الخارجية، وقبل تعيينه مديرًا للسي آي ايه، أنه مع غيره من المستشارين نصحوا أوباما بالتصدي للنشاطات الإيرانية التخريبية في سوريا والعراق، ولكن أوباما كان يخشى من أن تؤدي أي مواجهات ضد إيران في العراق أو سوريا إلى انسحاب طهران من المفاوضات النووية. وظل أوباما على موقفه هذا حتى حين قيل له مرارًا أن إيران، التي كانت تعاني كثيرًا من ضغوط العقوبات الاقتصادية الدولية المفروضة عليها قبل توقيع الاتفاق النووي في 2015، لن تنسحب من المفاوضات لأنها بحاجة إلى الاتفاق للإفلات من نظام العقوبات، وللحصول على أموالها الضخمة التي كانت مجمدة في الولايات المتحدة منذ عقود.
استمرار التظاهرات الاحتجاجية ووصولها إلى مناطق جديدة في إيران، سوف يشجع واشنطن على دعمها بطرق مادية وعملية جديدة وخلاقة، مثل توفير القدرات الإلكترونية للمعارضة على تعبئة التظاهرات وتنسيق النشاطات الاحتجاجية، تمامًا كما دفعت المقاومة العسكرية الأوكرانية الشجاعة والفعالة للغزو الروسي، واشنطن وحلفائها في حلف الناتو على تعزيز وزيادة الدعم العسكري لأوكرانيا. هذا العامل الخارجي هو من بين الأسباب التي تجعل الانتفاضة الإيرانية الاجتماعية في 2022 مختلفة عن الانتفاضات السابقة.