شكّل إعدام المملكة العربية السعودية الـ47 شخصًا في 2 كانون الثاني/يناير بتهم إرهاب وردّة الفعل العنيفة التي تلته صدمةً على الساحتين الدبلوماسية والسياسية في الشرق الأوسط. وكان 43 من المحكوم عليهم من السنة المتطرفين ومعظمهم مرتبطٌ بتنظيم القاعدة. إلّا أنّ الأربعة المتبقّين كانوا ناشطين شيعة، ومنهم رجل الدين البارز والمعارض نمر النمر الذي كان قد ظهر في السنوات القليلة الأخيرة كقائدٍ لحركة تظاهرات السعوديين الشيعة في المنطقة الشرقية المضطربة والغنية بالنفط. وقد أشعل إعدام الشيخ نمر التوترات الطائفية المتقلّبة السابقة في المنطقة، وأدّى إلى أزمةٍ دبلوماسية بين السعودية وإيران- وكلٌّ منهما مدعومٌ من حلفاءه- سوف تكون يصعب على الأرجح إصلاحها أو حتى ضبطها.
وكان ردّ إيران على إعدام النمر متوقّعٌ وغير مسؤولٍ على حدٍّ سواء. وأُقفلت السفارة السعودية في طهران وأُحرقت في هجماتٍ عنيفة حصلت بموافقة، إن لم نقُل تأييد الحكومة الإيرانية. وقد عُرف النظام الإيراني بأسلوبه المعتاد في استهداف السفارات الأجنبية تعبيرًا عن استياءه منذ إنشاء الجمهورية الإسلامية عام 1979، بدايةً باستهداف السفارة الأمريكية وموظفيها. ومنذ ذلك الحين، شهدنا سلسلة من الأحداث المماثلة التي عبّرت من خلالها إيران عن اعتراضها على إجراءات أو سياسات دولٍ أخرى بالاعتداء على سفاراتها في طهران. لذلك لم يكن من المفاجئ أن تلقى السفارة السعودية المصير نفسه في نهاية الأسبوع. إلّا أنّ بعض المعاومات تقول إنّ إيران، التي تسعى اليوم إلى قبولٍ أكبر لها على الساحة الدولية، أعربت عن أسفها إزاء الهجمات ووعدت مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بأنّه لن يتمّ استهداف البعثات الدبلوماسية في المستقبل.
وجاء الردّ السعودي بقطع العلاقات الدبلوماسية مع إيران ليزيد من حدّة التوترات بين البلدين بعد أن كانت قد بدأت تظهر علامات التخفيف منها بين الرياض وطهران، إذ كان قد بدأ الحوار بين البلدين حول مسألةٍ جوهريةٍ كانت سبب خلافٍ جدّي، وذلك للمرّة الأولى منذ سنوات على هامش محادثات السلام السورية. وكانت السعودية تتحضّر أيضًا لإرسال سفيرٍ جديدٍ لها إلى إيران بعد أن بعثت سفيرًا إلى العراق بعد مرور 25 عامًا من المقاطعة.
إلّا أنّ أحداث الأيام الأخيرة قد تجاوزت كل ذلك التقدّم. وتظهر أمام الولايات المتحدة اليوم سلسلةٌ من التعقيدات، ولا تقتصر على البحث عن تحقيق السلام في سوريا، بل تشمل أيضًا الحملة ضد تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش) والجهود لوقف الصراع في اليمن، فضلًا عن الجهود الدبلوماسية حول مسائل العراق ولبنان وبلدان أخرى في المنطقة.
ويصعب تفسير توقيت تنفيذ حكم الإعدام، إلّا أنّ عددًا من العوامل الأساسية واضحة. والأهمّ فيها أنّ السعودية على الأرجح تصرّفت وهي على يقينٍ من التداعيات المحتملة لإعدام النمر لدى الشيعة في المنطقة. لذلك فإنّ الرسائل التي يبدو أنّ السعودية تحاول إيصالها إلى أكثر من جمهورٍ واحد في غاية الوضوح.
أوّلًا، أدركت إيران وحلفاءها مرّةً جديدة، ولعلّها الأكثر وضوحًا، أنّ المملكة العربية السعودية مستعدّةٌ ليس لمواجهةٍ إقليمية فحسب، بل حتّى لمجازفةٍ أكبر. إنّها لخطوةٌ تظهر التحدّي من جهة الرياض وتتناسب مع مبادرةٍ سياسية يعمل بها الملك سلمان منذ تسلّمه الحكم وتشدّد على مقاومةٍ سعوديةٍ أكبر لطهران وطموحاتها الإقليمية. وتجدر الإشارة إلى أنّ الشيخ نمر النمر اعتُقل عام 2012 وحُكم عليه بالإعدام في عهد سلف الملك سلمان، الملك عبد الله من دون أن ينفَّذ الحكم. وهذا مثالٌ آخر على التغيير السياسي الذي يقوده الملك الجديد، على ما يبدو بدعمٍ من صاحب السمو الملكي ووزير الداخلية الأمير محمد بن نايف وعلى الأرجح، ابنه الشاب لكن المتشدد ولي ولي العهد ووزير الدفاع الأمير محمد بن سلمان.
ثانيًا، يتمّ اليوم توجيه رسالةٍ واضحة للشيعة المعارضين في بلدان الخليج العربية، بما فيها المملكة العربية السعودية، بأنّ هناك حدودًا صارمة تحملها معارضتهم هذه. وقام جوزيف براودي بتفسير سلوك الحكومة السعودية تجاه النمر ونظرتها له كشخصٍ خطيرٍ وعنيفٍ ومخرّب، ما يفسّر إعدامه رغم النتائج السلبية المتوقّعة. وتناول موقع Riyadh bureau بروز شخصية النمر من منظورٍ مختلفٍ ومفيد. ويستحق المنظوران أن يؤخذا بعين الاعتبار إلى جانب تحليلات أخرى. وبغض النظر عن الشيخ النمر، من الضروري معالجة وضع الشيعة في المملكة العربية السعودية وإلّا فسيبقى يسبب عدم الاستقرار في المملكة في المستقبل القريب.
ثالثًا، كانت أغلبية الذين أُعدموا من السنة المتطرفين المرتبطين بتنظيم “القاعدة”. لذلك فقد كانت الرسالة إلى السنة المتطرّفين ومن يصفون أنفسهم بـ”المجاهدين” مألوفة: سوف تعاقَب نشاطاتهم داخل السعودية أقصى العقوبات. وتستهدف هذه الرسالة “الدولة الإسلامية” أيضًا، إذ إنّ إعدام الناشطين الشيعة، بما فيهم النمر، سوف يؤدي إلى إحباط مزاعم التنظيم بأنه “قائد” الحركة ضد الوجود الشيعي القوي في المنطقة. والضربة على السنة المتطرّفين مزدوجة إذًا: فمن جهة، تظهر عمليات الإعدام نفسها عن استعداد السلطات السعودية لاتخاذ قراراتٍ صارمة تجاه المتطرفين، وتشكّل هجومًا سياسيًا على ادعاءات الإرهابيين الطائفية من جهةٍ أخرى.
ويمكن تفسير قرار إعدام الشيخ النمر والناشطين الشيعة الآخرين في هذا الوقت بأنّ الحكومة السعودية لم تشأ أن تظهر وكأنها تستهدف المتطرفين السنّة وحدهم بإعدامها لـ43 عضوًا من تنظيم “القاعدة”. ومن الممكن أن تكون الرياض حاولت أن تظهر أنها “منصفة” من خلال إعدام الشيخ النمر والناشطين الشيعة الثلاث. ويبدو هذا الاحتمال معقولًا، خصوصًا مع إنشاء تحالفٍ إسلامي لمحاربة الإرهاب مؤخرًا، إلى جانب مبادراتٍ أخرى تقودها السعودية وتستهدف “الدولة الإسلامية” وتنظيم “القاعدة”. لكن إذا كان هذا السبب الحقيقي، فقد نجحت محاولة التوازن في السياق الداخلي الضيّق. أمّا على المستوى الإقليمي والدولي، فيلقي إعدام النمر بظلاله على كافة الجوانب الأخرى للحدث.
ورابعًا، تذكّر السعودية الولايات المتحدة الأمريكية بأنّها ترى ضعفًا في القيادة الأمريكية وأنها سوف تسعى وراء أمنها الداخلي ومصالحها الإقليمية بفعاليةٍ واستقلاليةٍ أكبر من السابق. وعلى الرغم من التحذيرات المتكررة في الأسابيع الأخيرة من أنّ السعودية كانت تحضّر لعملية إعدامٍ واسعة النطاق، لم تتوقع معظم الجهات الدبلوماسية الغربية والمنظمات المتعددة الجنسيات أن السعودية ستنهي حياة النمر. ومن المتوقع أن تتحرك واشنطن سريعًا لمحاولة التأكد ممّا تريده السعودية من خلال هذا الإجراء والمباشرة بإصلاح الأضرار الملموسة التي ألحقت بأهمّ مخاوف السياسات الأمريكية الخارجية المذكورة أعلاه. ويجب ألّا يكون من المفاجئ أن يزور وزير الخارجية جون كيري الرياض شخصيًا في المستقبل القريب، إذ إنّ ذلك من شيم أسلوبه القيادي، ومن الواضح أنّ هذه الزيارة سوف تنسَب إلى خطورة الأزمة الدبلوماسية والسياسية وتأثيرها على الجهود لبدء المفاوضات حول سوريا.
وتواجه المملكة العربية السعودية اليوم مشاكل مهمّة من مختلف الجهات، ومنها المخاوف المتعلقة بسياساتها الداخلية والخارجية. ويعاني اقتصادها إلى حدٍّ كبير من كلفة البترول المنخفضة التي تحاول الرياض الحفاظ عليها لأسباب معقّدة. ولا تساعد التوترات الراهنة مع إيران على استقرار سعر النفط أيضًا. وقد يسهم هذا الضغط الاقتصادي الذي يعيشه النظام الاجتماعي والسياسي السعودي في تبرير توقيت عمليات الإعدام. وتمرّ الحكومة السعودية اليوم في فترة تقشّفٍ لم تشهدها من قبل، وتجري اقتطاعاتٍ لا مفر منها في الخدمات العامة والتسهيلات والإعانات ومنافع اجتماعية أخرى اعتاد المواطنون على الاستفادة منها في العقود الأخيرة. ولا يمكن السماح للاستياء الداخلي في فترة شبه-التقشف هذه بأن يتحوّل إلى تحدٍّ جديدٍ للنظام. لذلك، من المحتمل أن تكون الحكومة قد دُفعت إلى إرسال إشارةٍ واضحة للمتطرفين السنّة والمعارضين الشيعة على حدٍّ سواء بأنّ أي محاولةٍ لاستغلال التحديات الاقتصادية والاجتماعية المتزايدة لن يسامَح. بالإضافة إلى ذلك، يبدو أنّ التدخّل الذي تقوده السعودية في اليمن معرقل. وأفادت معلوماتٌ بأنّ مجموعة “جيش الإسلام” المعارضة والمدعومة من السعودية في سوريا قد عانت من سلسلةٍ من الانتكاسات منذ مقتل قائدها زهران علّوش من قبل ضربةٍ جويةٍ روسية في شهر كانون الأول/ديسمبر.
إلّا أنّ السعودية تظهر اليوم بوجهٍ واثقٍ، إن لم نقُل جريء، كالذي أظهرته في عمليات الإعدام والقرارات السياسية التي تبعتها. وقد شاركت دولٌ أخرى المملكة العربية السعودية في قطع الروابط مع طهران، ومنها السودان والبحرين. إلّا أنّ الإمارات العربية المتحدة والكويت بالكاد خففتا من روابطها مع إيران – وهي خطوةٌ يسهل الرجوع عنها- مع الحفاظ على العلاقات التجارية بالكامل. وتذكيرًا بالتعددية داخل مجلس التعاون لدول الخليج، انتقدت سلطنة عمان علنًا الخطوة السعودية.*
إلّا أنّ المملكة العربية السعودية قد ترحّب بالمشاركة الأمريكية (إذا تحققت) في هذه المسائل في الأسابيع المقبلة، خصوصًا إذا بدأت الرياض تشعر بأنّ التحكّم بنتائج أفعالها أصعب ممّا كانت تتوقّع. وبعد قطع السعودية لروابطها الدبلوماسية بالكامل مع إيران، ما عادت تملك اليوم سوى مجالٍ ضيّقٍ للتغيير من أجل استكمال الدبلوماسية الرفيعة المستوى من دون أن تقدّم تبريرًا علنيًا لما تغيّر. وقد يكون ذلك غير ملائم سياسيًا حتى ولو بات مرغوبًا فيه كسياسة. وبدأت النكسة في الداخل السعودي تسبّب إشكاليةً بحدّ ذاتها، إذ قُتل متظاهرٌ شيعي واحد على الأقل في القطيف في مواجهاتٍ مع السلطات. ويقول البيت الأبيض أنه سبق وحذّر المملكة من نتائج إعدام النمر. وفي حال اقتنعت الرياض بأنّ واشنطن مستعدةٌ للمساهمة في حل هذه المسائل لصالح المملكة، قد يخفف ذلك من حدة التوترات في العلاقات بين البلدين وربما إصلاح أي ضررٍ من أجل تعزيز الاستقرار في المنطقة.
*جديد: في 6 كانون الأول/يناير، أوضحت وزارة الخارجية في سلطنة عمان أنها لا تعترض على تعليق المملكة العربية السعودية لعلاقاتها الدبلوماسية مع إيران، ونسبت المعلومات الخاطئة إلى تغريدةٍ مضللة عبر موقع “تويتر”.