فاجأ القتال بين إسرائيل وحركة حماس، خاصة السرعة القياسية في انتشاره وشراسته وعدد ضحاياه وتوسعه من القدس العربية إلى العمق الإسرائيلي، الرئيس جوزيف بايدن وكبار المسؤولين في حكومته، الذين لم يضعوا النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي بين أولويات اهتماماتهم الخارجية، بل لم يضعوه بين أولوياتهم في الشرق الاوسط. في الشرق الأوسط، احياء وتوسيع الاتفاق النووي مع إيران يحتل المرتبة الأولى، ويليه على الأرجح إنهاء الحرب في اليمن. ويمكن القول أيضاً أن القتال، قد فاجأ القيادة الإسرائيلية، خاصة بعد الصدمة الكبيرة التي تعرض لها المجتمع الإسرائيلي، مع انتشار أعمال العنف والقتل وأعمال الشغب بين المواطنين العرب واليهود في المدن والبلدات المختلطة.
قد يكون من المبكر القول إن بايدن قد اختار أن يتجاهل النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، وأن هذا النزاع، على عادته المعروفة، قد قرر عدم تجاهل الرئيس الأمريكي الجديد، وأن يصعقه بحدة. خلال الأيام الماضية، ومع انتشار رقعة القتال والاشتباكات، كثف المسؤولون الأمريكيون من وتيرة إصدار مناشداتهم للطرفين لاحتواء العنف، ومع كل يوم غالوا في إدانة الهجمات الصاروخية لحماس، وأكدوا لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في اتصالاتهم المباشرة معه وفي بياناتهم، وقوفهم “الصلب” و “غير القابل للزعزعة” وراء العقاب العسكري، الذي أوصلته إسرائيل إلى عموم قطاع غزة دون التمييز بين الأهداف العسكرية والمراكز المدنية، تماما كما تفعل صواريخ حماس التي تندد اسرائيل والولايات المتحدة، وعن حق، بطبيعتها العشوائية.
بين وقت وآخر، كان يتخلل بيانات وزير الخارجية انطوني بلينكن، بعد إدانة حماس والتأييد غير المشروط لإسرائيل، إشارات إلى أن الفلسطينيين والاسرائيليين “يستحقون مقاييس متساوية في مجالات الحرية والكرامة والزمن والازدهار”. طبعا كيف يمكن تحقيق ذلك في غياب مفاوضات حقيقية تؤدي إلى تغيير واقع وجود طرف محتل، وطرف آخر تحت الاحتلال، فهي مسألة لا يبدو أن الديبلوماسية الأمريكية الراهنة تريد معالجتها. وأبرز ما غاب عن هذه الاتصالات والبيانات الأمريكية هو عدم وجود، ولو إشارة، عابرة إلى أن الهجمات الإسرائيلية “غير متناسبة بشكل صارخ”، أو أي انتقاد لاستخدام إسرائيل لقوانينها التمييزية ضد الفلسطينيين في القدس، أو لاستفزازات المستوطنين المسلحين، الذين يريدون اقتلاع عائلات فلسطينية تقيم منذ أجيال في حي الشيخ جراح في القدس. ولم يكن هناك ولو انتقاد متواضع لاقتحام الجنود والشرطة الإسرائيليين الحرم الشريف وإطلاق القنابل الصوتية والمسيلة للدموع على المصّلين والمتظاهرين، خلال شهر رمضان.
في الأيام الماضية، وحتى يوم الأربعاء ظلت الاتصالات بين المسؤولين الأمريكيين والمسؤولين الإسرائيليين محصورة بوزيري الخارجية بلينكن وغابي اشكنازي، ومستشاري الأمن القومي جايك ساليفان وماثير بن شابات.
لاحقًا توسعت الاتصالات، ومع حلول يوم الأربعاء قالت الناطقة باسم البيت الأبيض جين ساكي أن المسئولين الأمريكيين أجروا 25 اتصالاً هاتفيًا مع مسؤولين إسرائيليين، (كان من بينها، اتصال وزير الدفاع لويد أوستن بنظيره الإسرائيلي بيني غانتز، عرض فيه ما وصفه “بالدعم الصارم” لجهود الدفاع الإسرائيلية). وكذلك مع مسؤولين فلسطينيين، بمن فيهم أول اتصال بين بلينكن ورئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، ومع مسؤولين بارزين في مصر والأردن وقطر ودولة الإمارات العربية المتحدة، بهدف تعبئة هذه الدول لحض الطرفين على تقليص أعمال العنف، حيث تأمل واشنطن أن تستخدم قطر، التي تؤيد حماس ماديًا وسياسيًا، ومصر، التي تربطها حدود مشتركة مع غزة، نفوذهما لإقناع حماس بتخفيف العنف والتوتر، وأن تقوم دولة الإمارات، التي طبّعت علاقاتها مع إسرائيل في السنة الماضية، بإقناعها بتقليص العنف.
بعد أن وصلت هذه الاتصالات لطريق مسدود، كما يتبين من اتساع حدة ورقعة القتال بين إسرائيل وحماس، والاشتباكات داخل إسرائيل نفسها، اضطر الرئيس بايدن إلى إنهاء صمته، وضم صوته إلى جوقة المسؤولين الأمريكيين الأخرين، عبر اتصال هاتفي أجراه برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو. وفقاً لبيان للبيت الأبيض أدان بايدن الهجمات الصاروخية لحماس، وأكد لنتنياهو “دعمه الصلب لحق اسرائيل الشرعي في الدفاع عن نفسها وشعبها”. وقال لنتنياهو إن بلاده “تشجع على فتح طريق باتجاه استعادة الهدوء المستدام”، وأضاف بايدن أنه يتوقع انحسار العنف قريبًا. ولم يتطرق الرئيس الأمريكي للعنف الإسرائيلي، الذي استهدف مراكز مدنية إضافة إلى مواقع عسكرية في غزة.
لاحقًا، أعلن الوزير بلينكن أنه سيرسل الديبلوماسي هادي عمرو نائب مساعد وزير الخارجية للشؤون الإسرائيلية والفلسطينية “لحض الطرفين على تقليص العنف”. يذكر أن منصب مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الأوسط لا يزال شاغرًا. ومن المتوقع أن يعين الرئيس بايدن خلال الأسابيع المقبلة سفيرًا أمريكياً جديدًا لإسرائيل.
وعلى الرغم من السمعة المهنية الجيدة التي يتمتع بها الديبلوماسي هادي عمرو، الذي شغل مناصب حكومية في السابق، وتعرفه الأوساط المعنية بالشرق الاوسط في واشنطن، لعمله في البنك الدولي ومؤسسة بروكينغز للأبحاث، إلا أن بعض المحللين والمسؤولين السابقين قالوا إن التحدي الراهن يتطلب تدخل أمريكي سريع ومستمر وعلى مستوى عال. ورأى هؤلاء أن خطورة الوضع الراهن، وحقيقة أن القتال يتم بين طرفين تقودهما شخصيات متشددة، ولن تتردد في استخدام العنف لتعزيز أوضاعها الداخلية المضطربة، يعني أن هادي عمرو قد يفشل قبل بدء وساطته.
وهناك شعور سائد في الأوساط الرسمية، وبين المحللين في واشنطن، من أن هذه الجولة الجديدة من القتال، التي وضعت إدارة الرئيس بايدن في وضع محرج، تخدم، على الأقل في المستقبل المنظور، القوى المتشددة في إسرائيل، وأبرزها رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، الذي فشل قبل أسابيع في تشكيل حكومة جديدة، والذي لا يزال يواجه تحديات سياسية وقانونية حادة قد تؤدي إلى إنهاء مستقبله السياسي. رأى البعض في تهديد نتنياهو الضمني باحتمال اجتياح غزة بريًا، أنه لا يمانع في إطالة القتال لتعزيز وضعه الداخلي، والحصول على فرصة إضافية لتشكيل حكومة جديدة. وفي المقابل فإن التصعيد العسكري جعل حركة حماس تبدو، على الرغم من الدمار الكبير الذي تعرض له القطاع، وكأنها الطرف الأساسي، الذي يدافع عن حقوق الفلسطينيين، ليس في غزة فحسب، بل في القدس، أكثر من السلطة الفلسطينية في رام الله، التي همشها القتال أكثر، ووضعها في موقع خلفي.
مواقف واجراءات الحكومة الأمريكية، مثل إيفاد الديبلوماسي هادي عمرو للمنطقة، توضح أن الرئيس بايدن، يبعث برسالة ضمنية للأطراف المعنية، على الأقل في هذه المرحلة، أن هدفه، الآني والملحّ، هو وقف القتال واستعادة هدوء “الوضع الراهن”، وهي الاسم الضمني الأخر للاحتلال. ومنذ وصوله إلى البيت الأبيض، يبعث الرئيس بايدن ومساعديه مختلف الإشارات العلنية والضمنية التي تقول إنهم لا يتوقعون أي استئناف قريب لما يسمى “بعملية السلام” بين الفلسطينيين وإسرائيل، والمجمدة منذ سنوات. وهذا ما قاله بلينكن بوضوح خلال مثوله أمام لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ في يناير الماضي.
المسؤولون الأمريكيون يقولون في ايجازاتهم الخلفية، إن اسرائيل، التي أجرت أربع انتخابات نيابية خلال السنتين الماضيتين، غير مستعدة لاستئناف المفاوضات مع الفلسطينيين، وأن السلطة الفلسطينية قد همّشت نفسها، وغير قادرة أو غير راغبة بإجراء انتخابات جديدة، كما أن التفاوض المباشر مع حركة حماس غير وارد، لأن الولايات المتحدة وإسرائيل قد صنفتا الحركة كتنظيم إرهابي.
هناك أعذار شرعية لإدارة الرئيس بايدن حول صعوبة استئناف أي عملية تفاوضية بين إسرائيل والفلسطينيين، وأبرزها الحقائق السلبية الصارخة التي فرضها على الأرض الرئيس السابق دونالد ترامب، الذي عمّق من مشاعر الغربة بين الولايات المتحدة والفلسطينيين، والذي بارك، لا بل شجّع، إسرائيل على ضم مناطق جديدة في الضفة الغربية، وفقا لما سمي بخطته المنحازة كليًا لإسرائيل. الرئيس بايدن حاول إصلاح الأضرار الضخمة التي ألحقها ترامب باحتمالات السلام بين الفلسطينيين وإسرائيل، مثل تجديد التزام الولايات المتحدة بحل “الدولتين” للنزاع، واستئناف الاتصالات مع المسؤولين الفلسطينيين، إضافة إلى استئناف بعض المساعدات الاقتصادية.
لكن على الرغم من هذه الإجراءات التصحيحية، إلا أن لسان حال الإدارة الأمريكية الجديدة هو أنها لا ترى أن هناك ظروف موضوعية وتحول جذري في مواقف طرفي النزاع، تشجعها على إحياء “عملية السلام”. ولكن بغض النظر عن الإرث الثقيل الذي ورّثه ترامب لخلفه، فإن الرئيس بايدن، الذي يعرف تعقيدات وعمق الخلافات بين الطرفين، وصعوبة التعاون مع بنيامين نتنياهو، وهي معرفة تلقاها خلال خدمته كنائب للرئيس الأسبق باراك أوباما، سوف يحاول قدر المستطاع عدم التدخل أو التورط في نزاع ربما يعتقد مسبقاً أنه عاجز عن حله. بايدن الذي عين خلال أول مئة يوم له في السلطة مبعوثين سياسيين لليمن وإيران والقرن الأفريقي وليبيا، لم يعين حتى الآن – وربما لا يريد أن يعين – مبعوثًا خاصا لحل النزاع الفلسطيني-الإسرائيلي، كما فعل الرئيس أوباما خلال ثاني يوم له في الحكم. وحتى الآن لا يزال منصب مساعد وزير الخارجية لشؤون الشرق الاوسط شاغرًا. وحتى الآن لم يعين الرئيس بايدن سفيرًا أمريكيًا جديدًا في إسرائيل.
يتبين من كل ما تقدم أن الرئيس بايدن سيحاول قدر المستطاع عدم التورط في حل نزاع أخفق جميع أسلافه في حله. هل ستؤدي الصدمة الكبيرة، التي تعرضت لها إدارة الرئيس بايدن حين اكتشفت أن أطراف النزاع لن يتركونها في عزلة وأمان، إلى إعادة النظر بحساباتها؟ وحده مرور الوقت سيجاوب على هذا السؤال، وإن كان بالإمكان القول، بدرجة متقدمة من الثقة، أن بايدن سيقاوم العودة إلى حظيرة “عملية السلام” لأطول وقت ممكن.