الرئيس التركي رجب طيب إردوغان إلى اليسار، وأمير قطر تميم بن حمد آل ثاني يتصافحان في خلال حفل في الدوحة في قطر في 2 كانون الأول/ديسمبر 2015. (أسوشيتد برس/ ياسين بلبل، بريزيدنشال برس سيرفس، بول)
في حين اشتبكت الإمبراطوريتان العثمانية والبريطانية في إحدى المعارك الأكثر فتكًا في الحرب العالمية الأولى على مضيق الدردنيل، تواجهتا أيضًا في قطر. لكن خلافًا لما حصل في الدردنيل، لم يعتزم العثمانيون الفوز في الخليج. ففي صيف 1915، غادر الجنود العثمانيون المتمركزون هناك حصنهم، وهو الحصن الأخير الذي احتلوه في منطقة الخليج، وعبروا البحر باتجاه إيران. وترك الجنود مدفعًا جبليًّا ومدفعي ميدان و14 بندقية و120 صندوق ذخيرة و500 قذيفة. ولم يكن هناك بارود لمدفعَي الميدان، وسُلّمت الذخيرة والبندقيات إلى حاكم قطر الشيخ عبدالله بن قاسم الذي ساعد في الغزو البريطاني.
وبعد نحو قرن، في كانون الأول/ديسمبر 2014، وقّع حفيد حفيد الشيخ عبدالله أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني اتفاقًا بارزًا مع خلف الإمبراطورية العثمانية، أي تركيا، لنشر القوات التركية المسلحة على الأراضي القطرية. وستسمح قطر لتركيا بالتحديد “باستخدام… موانئها ومطاراتها ومجالها الجوي وبتمركز قواتها العسكرية على أراضيها وبالاستفادة من منشآتها ومخيماتها ووحداتها ومؤسساتها ومنشآتها العسكرية”.
ويكمن السبب المباشر لهذا التطور في العزل الذي شهدته كل من تركيا وقطر إقليميًّا، خصوصًا بعد الإطاحة بحكومة الرئيس محمد مرسي التي تقودها جماعة “الإخوان المسلمين” في مصر. نتيجة لذلك انهارت علاقة تركيا بمصر في تشرين الثاني/نوفمبر 2013 عندما سحبت مصر سفيرها من أنقرة وطلبت من السفير التركي لدى القاهرة مغادرة البلاد. وفترت علاقة تركيا بالمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة كذلك بشكل واضح. وقد نجم عن ذلك عدم انعقاد الاجتماع الوزاري المشترك الخامس للحوار الاستراتيجي بين دول مجلس التعاون الخليجي وتركيا كما كان مخطّطًا له مع أنّه كان من المتوقّع إجراؤه في 2013 في البحرين.
وبرز مدى عزل قطر عندما سحبت ثلاث دول خليجية، وهي المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والبحرين، سفراءها في آذار/مارس 2014 اعتراضًا على تدخّل قطر المزعوم في شؤونها الداخلية عبر دعم أفراد ومجموعات “تهدد أمن مجلس التعاون الخليجي واستقراره”. واعتُبر ذلك بشكل عام كإشارة مخففة إلى جماعة “الإخوان المسلمين”. من جهتها، انضمّت مصر إلى الدول الثلاث وسحبت سفيرها من الدوحة بعد بضعة أيام. وبالرغم من حلّ هذه الأحداث المؤسفة في نهاية المطاف، إلا أنها قرّبت قطر وتركيا أكثر من بعضهما البعض.
ومع أنّ هذا العزل الإقليمي المشترك شكّل حافزًا مهمًّا في توطيد الروابط بين البلدين، كانت تركيا وقطر تعملان على تطوير علاقتهما منذ سنوات. فقد وفّقا بين سياساتهما الخارجية في ما يتعلق بعدد من المسائل الرئيسية، والتي خالف معظمها السياسات الخارجية الخاصة ببعض دول الخليج الأساسية. كما طوّر البلدان علاقات جيدة نسبيًّا مع إيران، واعترفا بحركة “حماس” وعاملاها على أنها جهة فاعلة شرعية، وتعاونا لمحاولة الإطاحة بنظام الرئيس بشار الأسد في سوريا، ورحّبا بوصول شخصيات وأحزاب سياسية تابعة لجماعة “الإخوان المسلمين” إلى الحكم في تونس ومصر، وأصبح كلّ منهما داعمًا ماليًّا ودبلوماسيًّا بارزًا لمصر في خلال رئاسة مرسي. وسبق الاتفاقَ العسكري الذي أبرِم في كانون الأول/ديسمبر 2014 ثلاثة اتفاقيات قطرية-تركية، وُقّعت الأولى منها في العام 2007 وتلتها الثانية والثالثة في 2012، الأمر الذي دعّم التعاون على مستوى التدريب العسكري وإنتاج معدات الدفاع.
أتى عزل تركيا وقطر المشترك ببساطة لتعجيل علاقة ثنائية سبق ودخلت مرحلة نمو سريع. وعندما أصلحت قطر علاقاتها بالدول الخليجية الأخرى الثلاث في تشرين الثاني/نوفمبر 2014، لم يتغير اتجاه العلاقات المحسنة مع تركيا ولا وتيرتها، إذ جاء الاتفاق العسكري بعد شهر فقط من إعادة المملكة السعودية والإمارات والبحرين سفيريهما إلى الدوحة. وحسّنت تركيا علاقتها بكل من هذه الدول خصوصًا المملكة السعودية فيما واجهت الرياض تهديدات أمنية متزايدة أبرزها من الحوثيين في اليمن وتنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش)، فسعت إلى طلب مساعدة تركيا.
ومنذ التوقيع على الاتفاق توطدت العلاقات بين البلدين. وأرسلت القوات التركية المسلحة ضباطًا صغارًا (عددهم غير معروف) إلى قطر لدراسة اللغة العربية، فيما بدأت قطر بناء القاعدة العسكرية التي سيتمركز فيها الجنود الأتراك.
تعتبَر دوافع تركيا أكثر وضوحًا، فمنذ وصول حزب “العدالة والتنمية” إلى الحكم في بداية القرن الواحد والعشرين، اتبعت تركيا سياسة خارجية متعددة الطبقات في الشرق الأوسط، وحسّنت علاقتها بعدد من البلدان في المنطقة. وتضاعف حجم تجارة تركيا في المنطقة، وتنوّعت تصديراتها إليها واستيراداتها منها، كما وأصبح انخراط البلاد في السياسة الإقليمية أهمّ.
كما انتقلت تركيا إلى تنويع علاقاتها العسكرية الإقليمية، إذ نقلت القوات التركية المسلحة أنّ ما يقارب 30 ألف فرد عسكري “من 54 دولة صديقة وحليفة حضروا برامج تعليمية وتدريبية مختلفة” قدّمها الجيش التركي. وتسعى تركيا إلى الدخول إلى سوق الدفاع الخليجي المربح، بالتالي فإن إنشاءُ روابط عسكرية مع زبائن محتملين قد يسهل هذه العملية.
أمّا دوافع قطر فأقلّ وضوحًا، فهي تواجه تحديات أمنية رئيسية مشابهة لتلك التي تهدد جاراتها من الدول، وأبرزها تجنّب هيمنة إيران على منطقة الخليج على المستوى العسكري والسياسي. وكانت دول الخليج تأمل لو أن تركيا تضاهي إيران، فأعلن مجلس التعاون الخليجي تركيا شريكًا استراتيجيًّا في العام 2008 وأنشأ الحوار الاستراتيجي.
إلّا أنّ أسبابًا ثانوية خاصة دفعت بقطر إلى السعي لتوطيد علاقتها بتركيا. ففي الواقع، عملت قطر بتوازٍ نسبي مع المملكة السعودية حتى التسعينات، ثمّ بدأت تعتمد مقاربة أكثر جزمًا في ظل حكم حكم الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني. فازدادت معاداة المملكة السعودية والإمارات ووجدت قطر نفسها عندئذٍ معزولة نسبيًّا، الأمر الذي قد يبرّر حشدها العسكري. لكن يبدو أنّ قطر لاحظت مؤخّرًا أنّ قدراتها على مستوى القوة الناعمة ومقاربتها الداعمة لجماعة “الإخوان المسلمين” تواجه قيودًا جسيمة، لذا حاولت جاهدة إصلاح علاقتها بالرياض.
تشكّل القاعدة العسكرية التركية في قطر دليلًا مهمًّا على عزم البلدين على تقوية العلاقة التي تجمعهما على المدى الطويل. إلّا أنّه لا يمكن تحديد إذا ما سيساعد ذلك قطر فعلًا على إيجاد حلّ لمخاوفها الأمنية، لكنّها تبدو عازمة على السعي إلى تطوير قوة دفاعية أهمّ وقد يستطيع جيش تركيا الهائل تعزيز أمن الدوحة.
فايزة غوموس أوغلو صحفية وكاتبة تركية تقيم في الدوحة.