دعت المملكة العربية السعودية وروسيا إلى هدنة في حرب أسعار النفط بينهما، وجاء ذلك، جزئيًا، استجابة لتدخل الرئيس الأمريكي. واتفقت الدولتان على إعادة التوازن إلى سوق النفط التي عصف بها انهيار الطلب بسبب جائحة فيروس كورونا، والارتفاع المفاجئ في العرض إلى ما يتجاوز متطلبات السوق الضعيفة.
تراجُع العملاقان النفطيان عن صراع مرير فيما بينهما تسبب بأكبر انهيار لأسعار النفط العالمية منذ الأزمة المالية العالمية في عام 2008، وهو ما ألحق أضرارًا بضمانات الأسواق المالية العالمية الضعيفة أصلًا، بسبب التباطؤ في النشاط والتبادل التجاريين. في الحقيقة، تسبب هذا الفائض في انخفاض السعر القياسي لخام “ويست تكساس انترميديت” (West Texas Intermediate) الأمريكي للعقود الآجلة في مايو/أيار إلى ما دون الصفر للمرة الأولى على الإطلاق في 20 أبريل/نيسان.
دعا القائدان الشريكان- بحكم الواقع- لمجموعة تحالف أوبك والمنتجين من خارج أوبك (أوبك بلس) إلى اجتماع افتراضي طارئ في 12 أبريل/نيسان، بعد أسابيع فقط من اجتماع فيينا في أوائل مارس/آذار، الذي أفضى إلى حالة من الفوضى بسبب رفض روسيا خفض إنتاجها استجابة للتراجع الكبير في الطلب. فبدلًا من تقليص إنتاجها بشكل أكبر، والسماح لمنتجي النفط الصخري الأمريكيين من الاستفادة على حسابها، اعتمدت موسكو نهج الانتظار والترقب. كانت أوبك قد اقترحت تخفيضًا إضافيًا على الإنتاج بمقدار 1.5 مليون برميل يوميًا، والذي يظهر وكأنه “نقطة في محيط” نظراً لحجم الدمار الذي لحق بالطلب كما تكشف البيانات الأخيرة.
قررت الدول الـ 23 المنتجة للنفط في مجموعة أوبك بلس إجراء علاج الصدمة. اتفق المنتجون في الثاني عشر من أبريل/نيسان على خفض إنتاجهم الجماعي بمقدار 9.7 مليون برميل يوميًا، وهو انخفاض غير مسبوق كادت المكسيك تحبطه، لولا أنها وافقت أخيراً على تخفيض إنتاجها بكمية أقل بكثير مما تعرضه الولايات المتحدة للاستفادة من الركود. أما المنتجون الآخرون الذين ليسوا طرفًا في اتفاقية مجموعة أوبك بلس، بما فيهم الولايات المتحدة، فقد وضعوا جانباً ازدرائهم للتكتلات الاحتكارية، وألقوا بثقلهم في صفقة تخفيضات طوعية، إلا أنهم لم يرتقوا أيضًا إلى مستوى التعهد الكامل.
قدم اجتماع، عبر تقنية الفيديو كونفرنس، لوزراء الطاقة في مجموعة العشرين في الثالث عشر من أبريل/نيسان برئاسة المملكة العربية السعودية دعمًا غير مباشر لجهود أوبك بلس، ولكن دون تأييد الصفقة على وجه التحديد. وأشار بيان صادر عن مجموعة العشرين إلى تقدير “التزام بعض المنتجين بتحقيق الاستقرار في أسواق الطاقة”. ومع ذلك، وخلال محادثات الطاقة لمجموعة العشرين، كان هناك نقاش من قبل منتجي نفط آخرين بشأن مساهماتهم. مع انهيار الأسعار، أعلنت كبرى شركات النفط الدولية في العالم عن تخفيضات في الإنفاق. وسوف يتمخض عن ذلك، إضافة إلى تدهور الاقتصادات في بعض المناطق المنتجة، تخفيضات في العرض من خلال الاستنزاف.
قام وزير الطاقة الأمريكي دان برويليت (Dan Brouillette) بإبلاغ وزراء مجموعة العشرين أن إنتاج النفط الأمريكي قد ينخفض بنحو 2 مليون برميل يوميًا، أو ما يعادل 10٪ من الإنتاج في عام 2020.
وخروجًا على سياستها القائمة منذ زمن بعيد بعدم التدخل في الأسواق، تشجع وكالة الطاقة الدولية بعض أعضائها على تخزين النفط للمساعدة في امتصاص الفائض.
سارع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي لعب دورًا أساسيًا في إعادة السعودية وروسيا إلى طاولة المفاوضات، بالتوجه إلى تويتر لتهنئة الزعيمين السعودي والروسي بما سماه “صفقة النفط الكبرى”. وقال إن اتفاقية أوبك بلس ستوفر مئات الآلاف من الوظائف في الولايات المتحدة، وللعاملين في صناعة النفط الأمريكية، وبالأخص في قطاع النفط الصخري، الذي لحقت به، فعلًا، بعض الأضرار بسبب انهيار أسعار النفط. وفي توقعاتها الخاصة بالطاقة على المدى القصير التي نشرتها قبيل اجتماع أوبك بلس، تُفيد إدارة معلومات الطاقة الأمريكية (Energy Information Administration) أنها توقعت أول انخفاض سنوي في إنتاج النفط الأمريكي منذ عام 2016. كما توقعت أن الولايات المتحدة “ستعود إلى كونها مستوردًا خالصًا للنفط الخام والمنتجات البترولية في الربع الثالث من عام 2020، وسوف تبقى مستوردًا خالصاً في معظم الأشهر حتى نهاية الفترة التي تم التنبؤ بها”.
وكانت الإدارة الأمريكية، حتى وقت قريب، تدرس تقديم تشريعاتٍ مناهضةً للتكتلات الاحتكارية موجهة ضد أوبك، ولعل انضمامها الآن إلى جهد جماعي لإدارة سوق النفط يشير إلى الظروف الاستثنائية التي قلبت أساسيات السوق. وحتى مع وجود اتفاقية، ستعمل على إزالة حوالي 10٪ من المعروض العالمي، ما يزال السوق يقف على أرضية مترنحة. وليس من المرجح أن تظهر فورًا نتائج التخفيضات المتفق عليها، والتي قد تصل إلى 20 مليون برميل يوميًا، في حال عملت المساهمات الطوعية ومشتريات التخزين عملها، نظرًا لأن المملكة العربية السعودية وحلفاءها من دول الخليج العربية قد كثفوا من إنتاجهم إلى مستويات عالية تاريخياً في أبريل/نيسان. فالنفط في البحار يتجه نحو أسواق مشبعة بالنفط ومخزونات مليئة بالمنتجات البترولية.
لدى تقديم التقرير الأخير لسوق النفط الصادر عن وكالة الطاقة الدولية في 15 أبريل/نيسان، قال فاتح بيرول (Fatih Birol)، المدير التنفيذي للوكالة، للصحفيين إن شهر أبريل/نيسان قد ينحدر ليصبح “الشهر الأسوأ على الإطلاق بالنسبة لصناعة النفط”، مع كون الطلب في أبريل/نيسان يترنح بمعدل 29 مليون برميل يوميًا دون مستويات 2019، وهو الأدنى منذ عام 1995. ومن المتوقع أن ينخفض إجمالي الطلب لعام 2020 بواقع 9.3 مليون برميل يومياً على أساس سنوي، منهيًا بذلك عقدًا من النمو. وتتوقع وكالة الطاقة الدولية تسجيل رقمٍ قياسي في انخفاض إمدادات النفط بمقدار 12 مليون برميل يوميًا في مايو/أيار عندما يتم تطبيق اتفاقية أوبك بلس.
لم يكن تجاوب السوق مع اتفاقية أوبك بلس مشجعًا. وبعد الإعلان عن الصفقة، تراجعت العقود الآجلة لمزيج خام برنت القياسي العالمي، التي تعافت قليلا للتداول فوق 30 دولارًا للبرميل في الفترة التي سبقت اجتماع أوبك بلس، ما يشير إلى أن التجار قد اعتبروا الانخفاض غير كافٍ، لأنهم يتوقعون انخفاضًا أكبر بكثير في الطلب. تم التداول على مزيج خام برنت بحر الشمال بـ 28 دولارًا للبرميل في 17 أبريل/نيسان، نزولًا عن سعرٍ أعلى بقليل 31 دولارًا للبرميل في 12 أبريل/نيسان. وانخفض إلى ما دون 20 دولارًا للبرميل بحلول 21 أبريل/نيسان، منخفضًا بأكثر من 50 دولارًا للبرميل منذ بداية يناير/كانون الثاني. ووصلت العقود الآجلة لخام غرب تكساس الوسيط الأمريكي إلى حيّز أدنى من الصفر في 20 أبريل/نيسان، قبل يوم واحد من انتهاء العقد الأول لشهر مايو/أيار، ويعزى ذلك، إلى حد كبير، إلى نقص التخزين للتسليم المادي للبراميل في العقد. وسجل العقد انخفاضًا قياسيًا إلى سالب 40 دولارًا للبرميل قبل أن يتعافى قليلا قبيل إغلاق السوق.
وقد دفع هذا التجاوب غير المتحمس للسوق وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان ووزير الطاقة الروسي ألكسندر نوفاك إلى التلميح بأنهما سيكونان على استعداد لاتخاذ المزيد من الإجراءات إذا لزم الأمر. وقالا في بيان مشترك عقب مكالمة هاتفية في 16 أبريل/نيسان، إن البلدين “سوف يستمران في مراقبة سوق النفط عن كثب، وإنهما على استعداد لاتخاذ مزيد من الإجراءات بالاشتراك مع أوبك بلس ومنتجين آخرين إذا لزم الأمر”.
ويعتقد المطلعون في أوبك أن أسعار النفط ستبدأ في التعافي في مايو/أيار، ويعتقدون أيضًا أن التخفيضات التراكمية، بما فيها التخفيضات الطوعية من قبل الولايات المتحدة وكندا والبرازيل، إضافة إلى وعودٍ من بعض دول مجموعة العشرين لشراء النفط لمخزونها الاستراتيجي، قد تصل إلى 19.5 مليون برميل يوميًا.
كما أن أوبك، في تقريرها الشهري حول سوق النفط الذي تم نشره في 16 أبريل/نيسان، تنبأت بانخفاضٍ كبيرٍ في الطلب، ولكن بنسبة أدنى بقليل من توقعات وكالة الطاقة الدولية. وتتوقع انخفاضًا في الطلب على النفط بمقدار 20 مليون برميل يوميًا في أبريل/نيسان وبمقدار 6.8 مليون برميل يوميًا لعام 2020 بشكل عام.
تدخل اتفاقية أوبك بلس حيز التنفيذ في الأول من مايو/أيار، وهي عبارة عن مقياس متدرج من التخفيضات على مدار عامين. ويسري العمل بتخفيض 9.7 مليون برميل في اليوم حتى 30 يونيو/حزيران، ومن ثَمّ ستقوم المجموعة بتعديل العرض بمقدار 7.7 مليون برميل في اليوم من يوليو/آب إلى ديسمبر/كانون الأول. ومن يناير/كانون الثاني 2021 وحتى 30 أبريل/نيسان، تعهدت المجموعة بتخفيض 5.8 مليون برميل يوميًا. يعتمد خط الأساس في حساب حصة كل دولة على مستويات الإنتاج في أكتوبر/تشرين الأول عام 2018، باستثناء المملكة العربية السعودية وروسيا، اللتين أُعطِيتا خط الأساس نفسه البالغ 11 مليون برميل في اليوم.
ولكون المملكة العربية السعودية وحليفيها الخليجيين، الكويت والإمارات العربية المتحدة، تنتج أعلى من خط الأساس، فإن أوبك بلس سوف ترفع من الانخفاض التراكمي. قامت المملكة العربية السعودية بتزويد السوق بـ 12.3 مليون برميل يوميًا في أبريل/نيسان، ولذلك، فإنها بتخفيض إنتاجها إلى 8.5 مليون برميل في اليوم اعتبارًا من الأول من مايو/أيار، ستقوم فعليًا بتخفيض 3.8 مليون برميل في اليوم. سوف تقوم أوبك بلس برفع التعديل الإجمالي إلى 12.5 مليون برميل يوميًا، حيث تُقلص الدول الثلاث إنتاجها إلى المستويات المتفق عليها. وكالعادة، الكثير من الأشياء سوف تعتمد على مستوى الالتزام بالاتفاقية من قبل جميع الأطراف، وسوف يلتقي وزراء أوبك بلس عبر تقنية الفيديو كونفرنس في العاشر من يونيو/حزيران لتحديد ما إذا كانت هناك حاجة للمزيد من الإجراءات.
أشارت سيتي ريسيرش (Citi Research)، في تحليل قدمته في 12 أبريل/نيسان للمشتركين في “المركز العالمي للسلع” (Global Commodities Focus) الخاص بها، إلى أن “التخفيضات قليلة جداً ولكنها ليست متأخرة كثيراً”. وذكرت أن توقيت الاتفاقية يعني أنه قد فات الأوان في منع المخزون من التعاظم إلى ما يفوق المليار برميل بين منتصف مارس/آذار وأواخر مايو/أيار ومنع الأسعار الفورية من الهبوط إلى الأعداد الفردية. في حين أن التخفيضات المتفق عليها هائلة وغير مسبوقة، فمن المرجح أنها لن تفعل الكثير لكبح الانهيار الكبير في الأسعار في الأسابيع المقبلة، على حد قول محلليها. “ومع ذلك، فينبغي أن تؤثر إيجابيًا بشكل كبير على التوازنات الأساسية وأسعار النفط لبقية العام، حتى مع وجود قصورٍ من جانب المنتج …” يتوقع التقرير إعادة التوازن للأسواق بعد بداية الربع الثالث من العام مع انتعاش الطلب، وسحب النفط من المخزونات. ومن المتوقع أن تنتعش الأسعار إلى ما يقارب 45 دولارًا للبرميل أو أكثر بحلول نهاية العام.
من الصعب التنبؤ بالخطوة التالية من قبل أوبك بلس، مع الأخذ في الاعتبار استمرار حالة البلبلة المحدقة بجائحة فيروس كورونا، والركود الاقتصادي العالمي الذي يلوح في الأفق. ورفض الأمير عبد العزيز، متحدثًا إلى مجموعة مختارة من الصحفيين عقب إبرام الصفقة، التكهن بشأن الإجراء الذي قد يكون أو لا يكون مطلوبًا في الأشهر المقبلة.
ذكرت وكالة الطاقة الدولية في تقريرها الشهري حول سوق النفط لشهر أبريل/نيسان أنه في الوقت الذي لن تعيد فيه الإجراءات التي اتخذتها أوبك بلس ومجموعة العشرين التوازن إلى السوق مباشرةً، من خلال خفض ذروة العرض المتراكم وتسوية منحنى المخزون المتراكم، إلا أنها ستساعد في خلق “نظام معقد يمتص أسوأ ما في الأزمة”. وتتوقع انتعاشًا تدريجيًا يبدأ في يونيو/حزيران، على الرغم من أن الطلب سيبقى أدنى من العام الماضي بنحو 15 مليون برميل يوميًا.
وسوف تؤثر التخفيضات في الإنتاج من قبل أوبك بلس، والإجراءات الطوعية التي تتم دراستها من قبل بعض دول مجموعة العشرين على السوق بثلاث طرق. سوف يعمل التخفيض الأولي لأوبك بلس على التخفيف الفوري من فائض العرض في الأسابيع المقبلة والتغطية على زيادة المخزون. علاوة على ذلك، فقد عرضت الولايات المتحدة والصين وكوريا الجنوبية والهند قدراتها الاستراتيجية في التخزين للصناعة من أجل تخزين البراميل غير المرغوب فيها، أو أنها تدرس إمكانية زيادة مخزونها الاستراتيجي للاستفادة من انخفاض الأسعار. وأضافت وكالة الطاقة الدولية أنها لا تزال تنتظر المزيد من التفاصيل حول مخططات تخفيض الإنتاج واستخدام المخزون الاستراتيجي. ومع احتمال أن تكون الولايات المتحدة وكندا من أكبر المساهمين في تخفيض العرض، يرى منتجون آخرون أن الإنتاج سوف ينخفض بنحو 3.5 مليون برميل يوميًا في الأشهر المقبلة، بسبب تأثير انخفاض الأسعار، وفقًا لتقديرات وكالة الطاقة الدولية.
ذكرت وكالة الطاقة الدولية أيضًا في تقريرها لشهر أبريل/نيسان “إن فقدان هذا العرض إلى جانب تخفيضات أوبك بلس سيؤدي إلى عجز السوق في النصف الثاني من عام 2020، ما سيضمن إنهاء تراكم المخزون والعودة إلى الحالة المعتادة للسوق”. وحذرت الوكالة من أنه قد تكون هناك بعض القيود على مقدار ما يمكن أن تستوعبه فعليًا السوق المشبعة والبنية التحتية الموسّعة للتخزين.
وذكرت وكالة الطاقة الدولية أنه “لم يسبق أن اقتربت صناعة النفط إلى هذا الحد في اختبار قدرتها اللوجستية”.
أشار تقرير وكالة الطاقة الدولية لشهر أبريل/نيسان المقدم لوزراء مجموعة العشرين إلى أنه على الرغم من أن الأسعار المنخفضة قد تكون في صالح المستهلكين، “إلا أن فائدتها ضئيلة لحوالي أربعة مليارات شخص يعيشون تحت شكل من أشكال الإغلاق بسبب فيروس كورونا”. علاوة على ذلك، فإن انخفاض الأسعار يهدد استقرار الصناعة الذي يعتبر أساسيًا في عمل الاقتصاد العالمي.
وذكرت وكالة الطاقة الدولية أنه حتى مع الانخفاض القياسي في الطلب لهذا العام، إلا أن شركات النفط ما تزال تواجه تحديات الاستثمار لتعويض الانخفاض الطبيعي في الإنتاج ومواجهة النمو المستقبلي. وتتوقع الوكالة أن ينخفض الإنفاق العالمي من قبل شركات النفط العالمية في عام 2020 بنحو 32٪ إلى 335 مليار دولار، وهو المستوى الأدنى منذ 13 عامًا.