يتأهب صناع السياسة الخليجيون لتبعات انخفاض أسعار النفط إلى ما دون الـ 30 دولارًا للبرميل وارتفاع حالات الاصابة بفيروس كورونا، الذي يعطل الأسواق العالمية. وسوف تتقاسم الدول في أرجاء العالم العديد من الآثار السلبية قصيرة المدى التي أثرت على دول الخليج العربية نتيجة هذين العاملين (انخفاض أسعار النفط وفيروس كورونا). ومع ذلك، فإن بنية اقتصادات دول الخليج العربية ومسار التنمية الاقتصادية في المنطقة سيعمل على تعقيد جهود الحكومات في العودة إلى وضع ما قبل هذه الأزمات المتداخلة وغير المسبوقة.
بعيدًا عن عائدات الطاقة الهيدروكربونية، لا تزال عملية التنويع الاقتصادي مستمرة ومكلفة في دول الخليج. تعتمد الصناعات غير النفطية ذات الأولوية العالية والمخصصة لجهود التنوع بشكل كبير على التدفق عبر الحدود الوطنية للزوار الدوليين والبضائع. حالها كحال صناعة النفط، شهدت هذه القطاعات في اقتصادات الخليج صدمات مفاجئة، ويبدو أنها ستواجه عاماً صعباً في 2020.
أطلقت الحكومات حزم حوافز طارئة لتوفير الإغاثة الاقتصادية الفورية للسكان والمؤسسات، ولتوفير السيولة للمؤسسات المالية. ومع ذلك، يجب أن تولي استراتيجيات الإنفاق طويلة المدى في دول الخليج اهتماماً أكبر لمبادرات التنويع الاقتصادي. ومن المرجح أن تصبح الصناعات الرقمية والأشكال الأخرى من توفير الخدمات عن بُعد سمات مركزية لخطط التنويع الاقتصادي الخليجي، حال انحسار تدابير إدارة الأزمات واستئناف التخطيط الاقتصادي طويل الأمد.
التنويع الاقتصادي صعب المنال
بعيدًا عن عائدات مصادر الطاقة الهيدروكربونية، فإن عمليات التنوع الاقتصادي البطيئة والمكلفة جعلت دول الخليج العربية تعتمد بشكل غير مستقر على قطاع طاقة، الذي يتسم بالتقلب. أدى انهيار اتفاقية الإنتاج بين تحالف أوبك بلس في أوائل مارس/آذار إلى انهيار أكبر في أسعار النفط، التي كانت في انخفاض حاد بالفعل. انخفض سعر خام برنت من 58.80 دولار للبرميل في 20 فبراير/شباط إلى 24.67 دولار للبرميل في 18 مارس/آذار- وهو السعر الأدنى منذ عام 2003.
نظرًا لأن متوسط خام برنت بلغ 64 دولارًا للبرميل في عام 2019، أعدت العديد من حكومات دول الخليج العربية ميزانياتها لعام 2020 مستندةً إلى افتراض أن أسعار النفط ستتراوح ما بين 55 دولارًا إلى 60 دولارًا للبرميل. وفي ظل أسعار أقل من ذلك بكثير، من المتوقع أن يتسع العجز في هـذه الميزانيات. بالإضافة إلى ذلك، فإن الكثير من النفط الخام الذي تصدره دول الخليج العربية يتوجه إلى الدول الآسيوية، ويعتمد بعض المصدرين الخليجيين بشكل كبير على شريك تجاري واحد. عُمان، على سبيل المثال، لا تعتمد فقط على صادرات النفط والغاز التي تشكل ما يقارب 72٪ من الإيرادات الحكومية، ولكن أيضاً ابتاعت الصين وحدها ما بين 75٪ و95٪ من صادرات النفط الخام العمانية في عام 2019.
وصل سعر سهم أرامكو السعودية إلى مستوى متدنٍ عند 27.80 دولار في 16 مارس/آذار، بانخفاض بلغ تقريبًا 27٪ عن أعلى سعر لسهم الشركة الذي بلغ 38 دولارًا في منتصف ديسمبر/كانون الأول 2019. قامت الحكومة السعودية بطرح الاكتتاب العام الأولي لشركة أرامكو السعودية كمحورٍ لبرنامجها الطموح للتحول الاقتصادي، الذي يتضمن رسملة صندوق الاستثمار العام، وتشجيع الخصخصة المستقبلية للهيئات الحكومية. إن انخفاض سعر أسهم أرامكو يترك كلاً من الحكومة السعودية –وهي أكبر مساهم في أرامكو السعودية- والمستثمرين من القطاع الخاص عرضة للخطر. صرح المدير المالي لأرامكو السعودية أن الشركة “مرتاحة للغاية” مع أسعار النفط البالغة 30 دولارًا للبرميل. ولكن من غير المرجح أن تكون الحكومات في الرياض ودول الخليج العربية المجاورة مرتاحة لأسعار النفط هذه.
توفر الصناعات غير النفطية في منطقة الخليج القليل من الأمل في عودة الاقتصاد إلى وضعه الطبيعي بشكل سريع. تواجه العديد من الصناعات التي تعتبر ركائز لعملية التنويع الاقتصادي في المنطقة -بما في ذلك السياحة والضيافة والطيران والخدمات اللوجستية- تحديات غير مسبوقة. يتوقع المجلس العالمي للسفر والسياحة أن يؤدي تفشي فيروس كورونا إلى تقليص السفر العالمي بنسبة 25٪، ويعرض 50 مليون وظيفة للخطر. تشكل السياحة ما يقدر بنحو 12٪ من اقتصاد الإمارات العربية المتحدة. انخفضت معدلات الإشغال الفندقي في دبي في فبراير/شباط بنسبة 9.4٪، وانخفضت إيرادات كل غرفة متاحة – وهو مقياس للأداء يحسب بضرب متوسط سعر الغرفة اليومي في معدل الإشغال الفندقي- بنحو 23٪. وأغلقت أبو ظبي أماكن الجذب السياحي الرئيسية، مثل متحف اللوفر في أبو ظبي وحديقة عالم فيراري الترفيهية. ستؤدي التدابير الصارمة بخصوص تقييد حرية الحركة الداخلية لسكان الخليج إلى إعاقة السياحة والأنشطة الترفيهية المحلية في جميع أنحاء المنطقة.
ستعاني بالمثل الصناعات التي تسهل الحركة المادية للأشخاص والبضائع. وفقًا للاتحاد الدولي للنقل الجوي، قد تواجه الخطوط الجوية الخليجية خسائر في الإيرادات تبلغ 7 مليارات دولار نتيجة لتفشي الوباء. ومن المرجح أن يتم تعديل هذه التقديرات لتصل لمستوى أعلى عند إغلاق محاور النقل الدولية في المنطقة. كانت الخطوط الجوية الخليجية تعاني بالفعل، وصفت شركة طيران الاتحاد في أبو ظبي خسائرها، التي بلغت 870 مليون دولار في عام 2019، بأنها “مشجعة”، خصوصا بعد خسائر تراكمية بلغت 5.62 مليار دولار منذ عام 2016. توقفت سلاسل التوريد التي تربط اقتصادات الخليج مع نظرائها في آسيا وأوروبا، وهو ما يضطر شركات الخدمات اللوجستية في الخليج إلى إعادة تشكيل الطرق التجارية. يتوقع المسؤولون في الموانئ والمستودعات والمناطق الجمركية انخفاضًا كبيرًا في حجم البضائع المشحونة.
أعلنت حكومات الدول الخليجية بسرعة عن حزم حوافز اقتصادية لتعزيز اقتصادات بلدانها. أعلنت مؤسسة النقد العربي السعودي عن 13.3 مليار دولار من النفقات لدعم القطاع الخاص، في حين أطلق البنك المركزي الإماراتي حزمة حوافز اقتصادية بقيمة 26 مليار دولار. وقامت بعض الإمارات منفردة بتطبيق تدابير مالية إضافية. والتزمت أبو ظبي بالمبادرات الرئيسية السريعة المرتبطة ببرنامج غدًا 21، وهو برنامج من ثلاث سنوات بقيمة 13.6 مليار دولار أطلقه ولي عهد أبو ظبي. كما تخطط أبو ظبي لإنشاء لجنة إقراض جديدة داخل وزارة المالية، وتقديم مجموعة متنوعة من الإعانات والإعفاءات من الرسوم. وأطلق ولي عهد دبي، حمدان بن محمد آل مكتوم، حوافز بقيمة 408.4 مليون دولار لتخفيف الأثار السلبية على سكان الإمارة والشركات لمدة ثلاثة أشهر.
أعلنت قطر عن حزمة حوافز مالية بقيمة 20.5 مليار دولار للقطاع الخاص، وشجعت البنوك على منح فترة سماح مدتها ستة أشهر لسداد القروض. وتقدم البنك المركزي البحريني بخطوة أخرى إلى الأمام بتفويض البنوك والمؤسسات المالية في البلاد بتقديم تأجيلات لمدة ستة أشهر على أقساط المقترضين المتأثرين بفيروس كورونا. تمثل خطة الحكومة البحرينية لحزمة الحوافز بقيمة 11.38 مليار دولار حوالي 30٪ من الناتج المحلي الإجمالي السنوي للبلاد، وتغطي رواتب القطاع الخاص لمدة ثلاثة أشهر. طرح البنك المركزي العُماني حزمة حوافز بقيمة 20.8 مليار دولار للمؤسسات المالية في البلاد، في حين أقر مجلس الوزراء الكويتي مشروع قانون بقيمة 1.6 مليار دولار لتمويل الوكالات الحكومية التي تحارب فيروس كورونا.
الرابحون والخاسرون على المدى البعيد
لا يمكن لحُزم الدعم الاقتصادي السخية والإعفاءات من الرسوم الحكومية أن تستمر إلى مالا نهاية. في الواقع، تعمل حكومات دول الخليج العربية على خفض الإنفاق بشكل متزامن فيما بينها. ويذكر أن حكومة المملكة العربية السعودية قد طلبت من الوكالات الحكومية إعداد مقترحات لخفض مالا يقل عن 20٪ من ميزانياتها، وقام وزير المالية السعودي بخفض ميزانية الدولة بمقدار 13 مليار دولار، أو حوالي 5٪. كما خفضت وزارة المالية في عُمان من اعتمادات ميزانية 2020 للجهات الحكومية بنسبة 5٪. عند تخصيص نفقات محددة لمبادرات التنويع الاقتصادي، ينبغي على الحكومات الخليجية إعادة تركيز الاهتمام على الصناعات التي لا تتطلب تدفقات كبيرة من الزوار الدوليين والبضائع الأجنبية إلى دول الخليج.
من المرجح أن يبرز الاقتصاد الرقمي في المنطقة باعتباره الفائز الأكبر عندما تهدأ عاصفة تفشي فيروس كورونا وتستقر أسعار النفط. يمكن للصناعات التي تنتج قيمة رقمية وتقدم خدمات عن بُعد أن تكون بمثابة سياج وقائي ضد الأزمات المستقبلية التي تقيد تدفق الأشخاص والبضائع خارج الحدود الوطنية.
يعكس الإنتاج الإعلامي والتقنيات المالية والاتصالات الأنشطة الاقتصادية الواعدة لجهود التنويع الاقتصادي المتجدد في دول الخليج. رفعت الإمارات العربية المتحدة وعُمان القيود المفروضة على بعض التطبيقات التي تسمح بالمكالمات الصوتية عبر الإنترنت، ما قد يمهد الطريق لمزيد من التحرر التجاري في قطاعات الاتصالات الخليجية – وهي المجالات الاقتصادات الإقليمية التي غالبًا ما تهيمن عليها الشركات المملوكة للدولة. توفر المناطق الرقمية الحرة أو المدن التجارية الافتراضية، مثل تلك التي تقودها دبي، فرصًا لجلب الإيرادات من قاعدة عالمية من المستهلكين.
من المرجح أن تكون المبادرات المكلفة طويلة الأمد هي الخاسر الأكبر. تبدو المشاريع ذات التكاليف الباهظة (مثل منطقة نيوم للمشروعات العملاقة والمنطقة الحرة في المملكة العربية السعودية، التي تبلغ تكلفتها 500 مليار دولار، أو المشروع العملاق لمدينة الحرير (سيلك سيتي) في الكويت، والذي تبلغ تكلفته 86 مليار دولار) مشاريع غير واقعية في ظل الظروف الحالية، وقد يتم تقليص مراحل التطوير المستقبلية أو تأجيلها.
لم تترك الاقترابات التقليدية في عملية التنويع الاقتصادي لدول الخليج العربية إلا القليل من القدرة على المناورة لمواجهة التحديات الاقتصادية الملحة في عام 2020. ولا يمكن لدول الخليج أن تتجنب التداعيات الاقتصادية جراء انخفاض أسعار النفط وتفشي فيروس كورونا، ولكن يمكن للحكومات اتخاذ خطوات حاسمة لجعل اقتصاداتها أكثر مرونة في المستقبل.