لا تزال التوترات في الخليج تتنامى وسط احتجاز إيران ناقلة نفط تجارية. وتأتي مصادرة الناقلة العراقية بعد أسبوعيْن من إطلاق المواقف عقب احتجاز القوات البحرية التابعة للحرس الثوري الإيراني ناقلة بريطانية في 19 تموز/يوليو بسبب “عدم امتثالها للقواعد البحرية الدولية”. وجاء هذا الحادث ردًا على احتجاز قوات الكوماندوز البريطانية سفينة إيرانية قرب جبل طارق في الرابع من تموز/يوليو يُشتبه بأنها تهرّب النفط إلى سوريا. إن أهمية مضيق هرمز بالنسبة إلى إمدادات النفط العالمية موثقة للغاية، والتاريخ حافل بالائتلافات البحرية التي ترافق الناقلات التجارية عبر الخليج. غير أن الدعوات الأخيرة لمهمة جديدة متعددة الجنسيات في الخليج حصدت ردًا أقل من إيجابي. وتطرح الأحداث الحالية ثلاثة أسئلة مهمة: لم لا يمكن لقوات البحرية العربية ضمان أمن السفن التجارية؟ لم يصعب إلى هذه الدرجة تشكيل ائتلاف والعمل على أساسه؟ وما الذي قد تعنيه هذه الأحداث للأمن البحري المستقبلي في الخليج؟
قدرات البحرية العربية في الخليج
تتلقى قوات البحرية العربية موارد أقل واهتمامًا دون نظيرتيها الجوية والبرية. فقد تمّ تشكيل معظمها لتشارك في العمليات الساحلية الدفاعية من أجل صدّ أي هجوم إيراني أو إبطاء وتيرته. وعلى الرغم من تاريخ إيران في زرع الألغام المضادة للسفن، لا يزال الخليج يفتقر إلى منصات حرب الألغام. وفي ذروة “حرب الناقلات” في ثمانينيات القرن الماضي، شغّلت الولايات المتحدة وحلفاؤها العرب 17 كاسحة ألغام في المنطقة، لا تزال 12 منها فقط تعمل اليوم. كما لدى دول الخليج العربية مجتمعةً 12 فرقاطة فقط. وفي مياه الخليج المحدودة والضحلة، تقدّم سفن المياه الضحلة على غرار سفن الصواريخ وزوارق الدوريات ميزة كبيرة لمستخدميها. وتتمتع إيران بميزة كبيرة على صعيد هذه السفن، حيث تشغّل أعدادًا أكبر بكثير من السفن الحربية وسفن الصواريخ وزوارق الدوريات من الدول العربية المجاورة لها.
وتسعى الترتيبات التي أجرتها الدول العربية في الآونة الأخيرة إلى التعويض عن هذا النقص. فقد أقامت البحرية السعودية مشاريع مشتركة مع شركات فرنسية وإسبانية من أجل دعم الهندسة البحرية. كما أنها بصدد شراء حوالى 50 زورق للدوريات السريعة جديد من ألمانيا. وتدفع السعودية إلى شركة لوكهيد مارتن 11.2 مليار دولار من أجل بناء أربع نسخ معدّلة من السفينة القتالية الساحلية الأمريكية. من جهتها، أبرمت الإمارات عقدًا بقيمة 850 مليون دولار مع شركة بناء سفن فرنسية لقاء ما يصل إلى أربع طرادات جديدة.
لكن هذه التدابير قد لا تكون كافية للتأثير في ميزان القوة البحرية بين دول الخليج العربية وإيران. فجغرافية الخليج تشجّع الأنشطة الإيرانية حيث تفضي البحار الضيّقة والسواحل الوعرة والجزر المتفرقة إلى إقدام زوارق الحرس الثوري الإيراني ذات الإشارات المنخفضة والسريعة التحرّك على تنفيذ أنشطة معرقلة. ويحدّ عدد السكان الضئيل ونقص القوة البشرية في دول الخليج العربية من عدد السفن التي يمكن تجهيزها بطاقم عمل. فعلى سبيل المثال، يمكن للإمارات العربية المتحدة إرسال نصف طراداتها فقط في كل مرة إلى الميدان بسبب النقص في عدد البحارة. وتشير هذه العوامل، إذا ما أضفنا إليها اعتماد تاريخي على الولايات المتحدة لضمان الأمن في المنطقة، إلى أن قوات البحرية في الخليج تفتقر إلى القدرات الضرورية لقيادة مهمة معقدة ودائمة على غرار سفن مرافقة تجارية دولية.
مساعي تشكيل ائتلاف
واجهت الولايات المتحدة صعوبات من أجل تشكيل ائتلاف يحمي السفن التجارية. وطالب الرئيس دونالد ترامب من دول الشرق الأوسط والدول الآسيوية المستهلكة للنفط الاضطلاع بدور أكبر في ضمان أمن الخليج، كما صرّح وزير الخارجية مايك بومبيو أنه على لندن تحمّل مسؤولية حماية سفنها التجارية. ولا تزال واشنطن تسعى إلى تشكيل ائتلاف يُسمى “عملية سانتينل” من أجل ردع الأنشطة الإيرانية ولكنها لا ترغب في أن تكون العنصر المركزي فيه. وقد برزت عدة تفاصيل بشأن المهمة، بما فيها الرغبة في أن تقود دولة حليفة المهمة. وكانت المملكة المتحدة قد أعلنت في الخامس من آب/أغسطس أنها ستنضم إلى الولايات المتحدة في إطار “مهمة أمنية بحرية” وتأمل في نهاية المطاف تحوّل العملية إلى مبادرة بقيادة أوروبية. غير أن التفاصيل الفعلية بشأن مستوى التعاون بين البحريتين لا تزال غير واضحة، لكن حكومتيْ الدولتين والقيادة المركزية الأمريكية قد تتخلى عن تسمية سانتينل من أجل استقطاب المزيد من الشركاء.
هذا وتعتزم الولايات المتحدة زيادة المعرفة الموقعية ومشاركة المعلومات الاستخباراتية والتواصل بين القوات البحرية الشريكة. ويتصوّر القادة العسكريون أن يكون دورهم بمثابة قادة تنسيق وتبادل المعلومات، حيث يزودون السفن الحربية والسفن التجارية بكاميرات وأجهزة استشعار من أجل مراقبة أقسام كبيرة من مسارات الإبحار، ويحللون المعلومات وينقلونها إلى السفن والحكومات. ويسلّط مركز التحليلات البحرية الضوء على أهمية مشاركة المعلومات باعتبارها “أهم قوة مضاعفة لمواجهة تحديات الأمن البحري”.
يُذكر أن لندن تجنّبت في بادئ الأمر طلبات واشنطن الداعية إلى المشاركة وسعت بدلًا من ذلك إلى تشكيل ائتلاف بحري أوروبي. وكانت دول أوروبية قد رفضت طلبات التعاون مع تدابير واشنطن خوفًا من اعتبار أنها تدعم حملة الضغط التي تشنّها الولايات المتحدة ضدّ إيران. وحين أعلنت الحكومة البريطانية أنها ستنضمّ إلى الشراكة الأمريكية، أوضحت أن المملكة المتحدة ستبقى ملتزمة بالاتفاق النووي الإيراني ولن تشارك في العقوبات أو المعارضة التي تقودها الولايات المتحدة ضد طهران. وبدت كل من إيطاليا والدنمارك وفرنسا على استعداد للانضمام إلى بريطانيا في مساهمة أوروبية لضمان الأمن البحري، رغم أن ترتيبات جديدة بين لندن وواشنطن قد تقوّض هذه الرغبات.
ويتوافق قرار المملكة المتحدة مع اهتمامها المتجدد في مسائل أمن الخليج وقد يكون مسعى للمشاركة بشكل أعمق في المنطقة. وكانت قوات البحرية البريطانية قد أثبتت قدرتها على الوقوف في وجه أي عمليات احتجاز عدائية من خلال منع إيران من توقيف أي ناقلة نفط بريطانية. ولغاية تموز/يوليو، تمّت مرافقة 35 سفينة بريطانية في مضيق هرمز. ورغم أن البحرية الملكية تملك القدرة على تنفيذ مهمات أمنية بحرية، إلا أنها تواجه تحديات من حيث القدرة وتوفير الموارد: فهي تملك أقل من 20 سفينة سطحية قادرة على تسيير دوريات في الخليج. وحتى في ظل رغبتها الحالية في رفع عدد هذه السفن، تمكّنت لندن من نشر سفينة حربية ثانية فقط.
تحديات تشكيل ائتلاف
من بين الصعوبات التي تواجه الولايات المتحدة في تشكيل ائتلاف خليجي هو تحديد مواقع السفن المتوافرة من القوات البحرية المتعاطفة. ومن أجل المشاركة في الائتلاف، تستلزم الدول المعنية في أوروبا أو آسيا قدرة “المياه الزرقاء” – التي تتمثل بسفن سطحية كبيرة على غرار فرقاطات وطرادات قادرة على الإبحار بعيدًا عن موطنها. غير أن القليل من الدول يملك أعدادًا كبيرة من سفن مماثلة متوافرة وعددًا أقل حتى من الدول لديها سفن زائدة يمكن إرسالها بعيدًا عن سواحلها. وكانت اليابان قد امتنعت عن المساهمة بأي سفن في هذه العملية، مفضلةً إبقاء قواتها أقرب إليها في المياه المتنازع عليها.
وثمة تحديات أخرى شائعة في أي وضع يتعلق بالائتلاف. في هذا الصدد، يُعتبر مركز التحليل والعمليات البحرية لمكافحة المخدرات في لشبونة في البرتغال مهمة مشتركة مماثلة موجّهة من قوات البحرية، وللدول المشاركة فيه قيود قانونية وإجراءات تشغيلية مختلفة. كما للوحدات الداعمة للعملية أولويات ائتلافية ووطنية على السواء قد تتعارض مع بعضها البعض. كذلك، تقوّض السرية المفرطة للمعلومات الاستخباراتية والقيود على المعلومات عملية التواصل وترسيخ مشهد بحري مشترك. وتشمل التحديات الأخرى الاختلافات المتوقعة على غرار الحواجز اللغوية ودرجة تحمّل المخاطر وأساليب الإدارة. فهذه المشاكل لا تزال تشكّل تحديًا لحلف الناتو العسكري الأقدم في العالم. وعلى الرغم من سنوات الحرب في أفغانستان والحرب ضدّ تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام، تحبط الخيبات بشأن القيود والسلطات والمهام الوطنية عزيمة كبار القادة الحكوميين.
وقد يتمثّل حل أسهل لتشكيل ائتلاف بحري في الانطلاق من قوات العمل المشتركة القائمة. إن قوات البحرية المشتركة هي شراكة بحرية بين 33 دولة تتألف من ثلاث قوات مشتركة تعمل في الخليج وخليج عُمان والبحر الأحمر وكذلك على طول ساحل أفريقيا. وإذ تتشارك الموقع مع الأسطول الخامس التابع للبحرية الامريكية في البحرين، تتمتع قوات البحرية المشتركة بنحو عقديْن من الخبرة الائتلافية حيث تنفذ مهام مكافحة الإرهاب والقرصنة والتهريب وتعزّز “بيئة بحرية آمنة“. وتقوم إحدى الوحدات التابعة لها ألا وهي فرقة العمل المشتركة 152 في تسيير دوريات في الخليج وتعزيز التكامل البحري وتتألف من وحدات من دول الخليج العربية والمملكة المتحدة والولايات المتحدة وغيرها من الشركاء. ومنذ بداية العام 2019، نسّقت القوة المشتركة عمل أكثر من 25 سفينة من الدول المساهمة. وبدلًا من صرف الرأسمال الدبلوماسي وإضاعة ساعات من أجل تشكيل ائتلاف جديد، يمكن الاستعانة بـ فرقة العمل المشتركة 152 كإطار لتوسعة العمليات الأمنية البحرية.
تداعيات مستقبلية
من المرجح أن تصبح عمليات الانتشار البحرية الإضافية لجهات غير أمريكية هي المعيار في ظل هبوط معدلات الانتشار الأمريكي وإعادة توجيه السفن العاملة نحو المحيط الهادئ. وكما هو واضح، لقد تراجع التواجد الدائم لحاملات طائرات أمريكية خلال السنوات القليلة الماضية. وفي وقت سابق من هذا الصيف، أعادت الولايات المتحدة توجيه بعض الأصول إلى الخليج، لكن معظمها كانت منتشرة أساسًا في مناطق قريبة. وصحيح أن هذه الخطوة زادت عدد الأسطول الخامس إلى 23 سفينة، لكنه لا يزال إلى حدّ كبير دون السفن التي بلغ عددها 37 والتي سيّرت دوريات في الخليج عام 1980.
يبدو أن دول الخليج العربية تسعى إلى إيجاد حل دبلوماسي للأزمة، ما يشير على الأرجح إلى غياب الثقة في قدرة واشنطن على ضمان الأمن والإقرار بقيودها في الوقت نفسه. يُذكر أن وفدًا من مسؤولين إماراتيين من خفر السواحل التقى مسؤولين إيرانيين من حرس الحدود وخفر السواحل للمرة الأولى منذ 2013 من أجل مناقشة التباينات على الحدود البحرية ومنع الشحن غير القانوني. كما شاركت عُمان في محادثات ثنائية في إيران للبحث في حوادث شحن شهدها مضيق هرمز.
من جهتها، ألمحت الصين، إحدى أكبر الدول المستوردة لنفط الخليج، إلى إمكانية مشاركتها في مهمة أمنية متعددة الجنسيات. فالمنطقة معتادة على تواجد السفن الصينية التي يمكنها الاضطلاع بدور أكبر ربما. وكانت الصين قد أرسلت أكثر من 30 أسطولًا إلى خليج عدن والقرن الإفريقي من أجل مرافقة سفن مدنية، كما لديها قاعدة عسكرية في جيبوتي. وقد رافقت هذه الأساطيل أكثر من 6600 سفينة منذ انطلاقتها الأولى في العام 2008. بدورها، أعلنت البحرية الهندية إرسال سفينتين وطائرة استطلاع بحرية إلى الخليج، وأن الفرق الأمنية ستكون على متن ناقلات نفط هندية.
وبتشجيع من ترامب، ربما يكون الأمن البحري في الخليج ينتقل من كونه مسؤولية أمريكية إلى مسؤولية متعددة الجنسيات. وقد تعمل البلدان بشكل مستقل أو تعزّز جهودها من خلال التعاون، لكن قد لا تشعر بعض الدول الأوروبية بالراحة مع تنقّل الجهود الدبلوماسية بين الأمن البحري والاتفاق النووي الإيراني. لكن بغض النظر عن كل ذلك، فإن الصعوبات التي تواجهها الولايات المتحدة في تشكيل ائتلاف تُعتبر تطورًا جديدًا. فالولايات المتحدة تضفي قدرات فريدة على الشراكات العسكرية، بما في ذلك عدد كبير من الوحدات ومجموعة واسعة من الطائرات ومنصات جمع معلومات استخباراتية متعددة ومتنوعة وكذلك بنية تحتية متطورة للاتصالات – حيث أن غيابها يحطّ بالتأكيد من قدر أي عملية مشتركة. ولا شكّ في أن دعمها اللوجستي وموانئها ستكون عوامل ضرورية لاستدامة عمليات المشاركين الآخرين على المدى الطويل. وقد تسفر “عملية سانتينل”، أو الاسم الجديد للمهمة الدولية الذي سيحل محلها، عن ائتلاف عسكري رسمي أو مسعى تنسيق روتيني في مضيق هرمز الضيّق أساسًا. تجدر الملاحظة أن أمن الخليج والتعاون البحري دائمًا ما ينطويان على صعوبات. فالمساران قد يجعلان كلًا من الولايات المتحدة والدول الأوروبية ترغب في توطيد العلاقات إذ لا يغيب عن بالها مدى صعوبة هذه المهام حين تعمل كل جهة بمفردها.
هذه الملاحظات لا تعكس وجهات نظر مشاة البحرية الأمريكية أو وزارة الدفاع أو الحكومة الأمريكية.