في 14 نوفمبر/تشرين الثاني، وصل الرئيس التونسي قيس سعيد إلى قطر لإجراء محادثات استمرت ثلاثة أيام مع الأمير تميم بن حمد آل ثاني. كان أمير قطر أول رئيس دولة يزور الرئيس التونسي الجديد بعد انتخابه في أكتوبر/تشرين الأول 2019، سافر تميم إلى تونس العاصمة في فبراير/شباط لإجراء محادثات مشتركة حول “القضايا الداخلية والثنائية والعربية والإقليمية”. كانت تلك الزيارة إلى تونس هي الرابعة لتميم خلال أربع سنوات، ما من شأنه أن يسلط الضوء على الثقل الاستراتيجي للعلاقات الثنائية بين تونس والدوحة. قدمت الاجتماعات خططاً لمشاريع استثمارية مهمة في تونس، وزيادة حجم التجارة، واتفاقية التجارة الحرة، والشراكة في المبادرات الدولية بما في ذلك “مؤتمر إسلامي-غربي“. كان الوضع الأمني المتدهور في ليبيا من بين أهم قضايا السياسة الخارجية التي تم بحثها، وهو الصراع الذي أدى إلى تفاقم عدم الاستقرار الإقليمي، ويهدد بالانتشار عبر الحدود الشرقية لتونس. مع اشتداد المنافسة الإقليمية في جميع أنحاء الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، من المرجح أن تصبح تونس شرخاً استراتيجياً آخر، حيث تؤدي الجهود المبذولة لتعزيز العلاقات الاستراتيجية بين قطر وتونس إلى تحفيز المنافسة مع الدولتين الخليجيتين؛ المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة.
الأزمات السياسية والمِحن الاقتصادية في تونس
جرت المحادثات بين سعيد وأمير قطر على خلفية الركود الاقتصادي العالمي، والاستقطاب الحاد في السياسة الداخلية التونسية، وترسيخ حالة عدم الاستقرار الإقليمي والمنافسة الجيوسياسية في منطقة البحر المتوسط بين القوى الأوروبية وروسيا وتركيا ودول الخليج العربية والولايات المتحدة، والصين.
ينكمش الاقتصاد التونسي نظًًا لما تحويه بنيته من نقاط ضعف، مثل تضخم القطاع العام وارتفاع معدلات البطالة التي تفاقمت بسبب التداعيات الاقتصادية لجائحة فيروس كورونا، وانخفاض أسعار النفط، وبالتالي تضاؤل الاستثمارات والمساعدات الأجنبية. تعد الاستثمارات والمساعدات من أوروبا والولايات المتحدة ودول الخليج، بمثابة شريان الحياة بالنسبة لتونس. بلغ متوسط نمو الناتج المحلي الإجمالي في تونس 1.5٪ فقط بين عامي 2011 و2019. وتوقع صندوق النقد الدولي أن يتقلص الاقتصاد التونسي بنسبة 4.3٪ في عام 2020، وهو أسوأ ركود اقتصادي منذ استقلال تونس في عام 1956.
وجاء الاجتماع أيضاً خلال عام من الاضطرابات السياسية في تونس. فانتخابات 2019 جاءت بشخص من خارج المؤسسة السياسية، ليس له انتماء حزبي رسمي، وهو سعيد، إلى قصر قرطاج، وأسفرت عن برلمان متشرذم بقيادة حركة النهضة، وانتخب زعيمه راشد الغنوشي رئيسًا للبرلمان. استغرق الأمر أسابيع حتى يتمكن رئيس الوزراء إلياس الفخفاخ من حشد ما يكفي من الدعم لتشكيل الحكومة، وبعد أقل من خمسة أشهر في منصبه، أُجبر على الاستقالة بسبب مزاعم فساد، الأمر الذي أشعل فتيل أزمة سياسية. لقد استقر المشهد منذ حصول رئيس الوزراء هشام المشيشي على موافقة البرلمان على حكومته التكنوقراطية، ولكن ما تزال التوترات قائمة بين سعيد والأغلبية البرلمانية بقيادة حركة النهضة. في النظام التونسي، تكون السلطة الرئاسية في صنع السياسات المحلية محدودة، ما يمنح تحالف النهضة في البرلمان دوراً أكبر.
بصفته رئيس البرلمان وحركة النهضة، قام الغنوشي بزيارة مثيرة للجدل إلى تركيا في يناير/كانون الثاني، بالإضافة إلى مكالمات هاتفية مع قادة أجانب مثل رئيس حكومة الوفاق الوطني الليبية فايز السراج. وأفضت هذه الاتصالات مع زعماء أجانب إلى انتقادات واسعة النطاق من أعضاء المعارضة في البرلمان، ووصل الأمر إلى المطالبة باستقالة الغنوشي. وقد أصدرت سبعة أحزاب سياسية تونسية بياناً مشتركاً بعد هذه الدعوة، بحجة أن الغنوشي كان يحاول “تجاوز مؤسسات الدولة وجر البلاد إلى الصراع في ليبيا، دعماً للإخوان المسلمين وحلفائهم”.
وازدادت المخاوف بشأن من يقود البلاد بالفعل، وكاد التصويت بحجب الثقة يطيح بسلطة الغنوشي. وألقى سعيد خطاباً، تم اعتباره على نطاق واسع على أنه رفض لتجاوزات نفوذ الغنوشي على السياسات الداخلية والخارجية التونسية، مؤكداً أنه “يجب على الجميع أن يدرك بأن هناك تونس واحدة فقط، ورئيساً واحداً على الصعيدين الوطني والدولي”.
الروابط العربية الخليجية وتأثيرها
منذ عام 2011، وتونس ساحة معركة لدول الخليج العربية، التي تسعى إلى صياغة السياسة الداخلية والخارجية لهذه الدولة الصغيرة والاستراتيجية في شمال أفريقيا. الخلاف الرئيسي كان بخصوص دور الأحزاب ذات الارتباطات الإسلامية في السياسة الداخلية، إضافة إلى موقف تونس من القضايا الإقليمية الرئيسية مثل التدخل الأجنبي في الحرب الليبية والمنافسة الإقليمية بين الكتلة التي تقودها تركيا وقطر من جهة، والإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية من جهة أخرى.
كانت الانتفاضة التونسية بمثابة الشرارة التي أشعلت احتجاجات الربيع العربي عام 2011. فقد عززت حركة النهضة مكانتها كواحد من أكثر الأحزاب السياسية شعبية في تونس منذ الاحتجاجات، ما جعلها المنتصر الرئيس للتجربة الديمقراطية في تونس. وتعتقد بعض دول الخليج العربية، ولا سيما الإمارات، أن حركة النهضة تسعى لنشر الإسلام السياسي في جميع أنحاء المنطقة من خلال التحالفات مع خصمَي الإمارات، قطر وتركيا. ونتيجة لذلك، تنظر أبوظبي إلى الشرعية الانتخابية الإسلامية على أنها تهديد للاستقرار الإقليمي وكذلك لنظامها في الداخل. في المقابل، تحافظ قطر على روابط قوية مع حركة النهضة والأحزاب الإسلامية الأخرى مثل حزب العدالة والتنمية التركي. كما تشترك تونس في الحدود مع ليبيا، حيث تؤدي الحروب بالوكالة بين القوى الإقليمية الكبرى (بما في ذلك دول الخليج العربية وتركيا ومصر) والقوى الأوروبية (خاصة فرنسا وإيطاليا) وروسيا، إلى تفاقم المشهد الأمني في شمال أفريقيا. وقد أسفر هذا عن وضع تونس في قلب صراعات القوى الجيوسياسية على البحر الأبيض المتوسط الاستراتيجي.
باعتبارها منشأ احتجاجات الربيع العربي، تتمتع تونس بأهمية رمزية، ربما لاعتبارها قصة النجاح الوحيدة لإرساء الديمقراطية في العالم العربي. وتراقب العديد من الدول عن كثب المسارات السياسية والاقتصادية لتونس بهدف إقامة وتوثيق العلاقات معها. وعرضت دول الخليج العربية الاستثمار والدعم، بدرجات متفاوتة، منذ عام 2011، وغالباً ما يتم توجيه هذا الدعم الدبلوماسي والمالي لأحزاب سياسية وأطراف فاعلة معينة ممن يشاركونها مصالح استراتيجية. هناك معارك دعائية شرسة حول السياسة التونسية في وسائل الإعلام الخليجية وعبر وسائل التواصل الاجتماعي. غالباً ما تقدم وسائل الإعلام الخليجية، بما في ذلك الجزيرة والعربية وسكاي نيوز عربية، مساحات وتغطية إعلامية ملائمة للسياسيين والأحزاب التونسية المفضلة لكل منها. من جانبها، حافظت تونس على الحياد الرسمي منذ أن فرضت السعودية والإمارات والبحرين ومصر مقاطعة على قطر في عام 2017، مكررة بذلك مواقف دول مغاربية أخرى مثل المغرب والجزائر. ومع ذلك، فهي تكافح لتأكيد استقلالها عن التأثير الحقيقي الذي يمكن تصوره لدول الخليج، التي لا يزال الاقتصاد التونسي المتعثر يعتمد عليها للحصول على مساعدات واستثمارات أجنبية كبيرة.
قبل عام 2011، في ظل نظام زين العابدين بن علي، كانت الإمارات والسعودية من بين أكبر الشركاء التجاريين لتونس في المنطقة. بعد احتجاجات عام 2011 والإطاحة بنظام بن علي، إضافة إلى صعود التحالف الذي تقوده النهضة، ازدهرت العلاقات الاقتصادية بين قطر وتونس، حيث وجهت الدوحة اهتمامها نحو دعم اقتصاد البلاد الضعيف. في عام 2012، وافقت قطر على منح تونس قرضاً بقيمة مليار دولار، وتعهدت بتوفير فرص عمل لـ 20 ألف خريج تونسي. استخدم نصف القرض في تعزيز أصول البنك المركزي التونسي (اكتتبت قطر بمبلغ 500 مليون دولار في سندات الخزانة التونسية لمدة 5 سنوات بنسبة 2.5٪) والنصف الآخر خُصص للاستثمار في البنية التحتية. كما وعدت قطر باستثمار ملياري دولار في مشروع مصفاة للنفط الليبي على ساحل خليج قابس التونسي، مع أن هذا تم إلغاؤه في عام 2014 بسبب المخاوف من عدم انتظام إمدادات النفط الليبية. من الناحية الرسمية، تحتفظ قطر بمحفظة استثمار مالي تزيد قيمتها عن 3 مليارات دولار موزعة على قطاعات السياحة والبنوك والاتصالات في تونس. بالإضافة إلى ذلك، يقدم صندوق الصداقة القطري وصندوق قطر للتنمية ومؤسسة صلتك التمويل لمشاريع التنمية، خاصة للشباب التونسي العاطل عن العمل.
تعد قطر الآن أكبر مستثمر عربي في تونس وثاني أكبر مستثمر أجنبي بعد فرنسا، ولكن لا يزال الاستثمار الخليجي إجمالاً مهماً لاستراتيجية البلاد لمكافحة المصاعب الاقتصادية. تعكس المستويات المتفاوتة للاستثمار الخليجي في تونس، فضلاً عن الدعم الدبلوماسي للحكومة التونسية، الكثير عن أولويات السياسة الخارجية لدول الخليج في شمال أفريقيا. وتجادل كارين يونج، وهي باحثة مقيمة في معهد أمريكان انتربرايز، على موقع المونيتور، “تؤثر الصراعات بين الدول الخليجية على التدفقات الاستثمارية داخل المنطقة… وسوف تتسبب مصالحهم السياسية بوضع أولويات في الخارج لكل من تدفقات الاستثمار الأجنبي إضافةً للمساعدات والتدخل المالي على شكل ودائع في البنك المركزي”.
على سبيل المثال، في مؤتمر الاستثمار “تونس 2020″، الذي انعقد في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، لاحظ الكثيرون “ضعف الحضور الإماراتي” مقارنة بالحزمة المالية القطرية البالغة 1.25 مليار دولار، وتعهد السعودية بتقديم 725 مليون دولار، ووعد الكويت بتقديم 500 مليون دولار. وأشار المحلل التونسي يوسف شريف إلى أن “مؤتمر “تونس 2020″ بدا وكأنه رد من قطر على مؤتمر مصر للاقتصاد والتنمية (EEDC) الذي نظمته الإمارات في مارس/آذار 2015، والذي سمح لدولة الإمارات بتوسيع نفوذها في ذلك البلد”. في ذلك الوقت، انضمت حكومة التوافق، التي كانت تقود تونس، إلى حزبي النهضة ونداء تونس كشركاء في الحكم، وهي خطوة اعتبرتها أبوظبي طعنة لمصلحتها الاستراتيجية المتمثلة في الحد من نفوذ الأحزاب الإسلامية. حتى وإن كان الحزب التونسي المفضل لدى الإمارات، نداء تونس، قد دخل أيضاً في السلطة آنذاك، إلا أن الشراكة مع حركة النهضة كانت مصدر قلق بسبب جذورها الإسلامية وعلاقاتها مع قطر وتركيا. كما أن هذا المؤتمر الاستثماري كان يمكن أن يعكس الاستراتيجيات المتباينة التي تتبعها السعودية والإمارات العربية المتحدة. إن أكثر ما يوجه السياسة الخارجية لأبوظبي هو محاربة ما تعتبره نفوذاً قطريًا وتركياً وإسلامياً إقليمياً، في حين تبدو السعودية أكثر انشغالاً بتوسع القوة الإقليمية الإيرانية. كما يجادل شريف، بأن استراتيجيات الاستثمار المختلفة التي تتبعها السعودية والإمارات في تونس تشير إلى خلافات سياسية أخرى حول العلاقات مع قطر وتركيا بالإضافة إلى المساعي المتناقضة للتقارب مع اليمن وسوريا وليبيا.
في نوفمبر/تشرين الثاني 2018، كانت تونس محطة مهمة لولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في أول رحلة خارجية له إلى العالم العربي في أعقاب مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية باسطنبول. بعد ذلك بوقت قصير، أعلن الملك سلمان بن عبد العزيز عن حزمة مساعدات مالية بقيمة 850 مليون دولار (500 مليون دولار للميزانية و230 مليون دولار للتجارة الخارجية) وذلك في زيارة لرئيس الوزراء يوسف الشاهد إلى السعودية في ديسمبر/كانون الأول 2018.
وعلى الرغم من استمرار وجود حركة النهضة في الحكومة التونسية، فقد بقيت الاستثمارات والمساعدات السعودية لتونس مستقرة إلى حد كبير. ومع ذلك، كانت الاستثمارات والمساعدات الإماراتية لتونس تتراوح ما بين مدٍ وجزر، ولكن تم الحد منها أكثر مع استمرار أداء النهضة الجيد في الانتخابات، ومع توسع الروابط مع خصوم الإمارات، قطر وتركيا.
ومع ذلك، فإن الركود الاقتصادي العالمي الناجم عن جائحة فيروس كورونا، إلى جانب انخفاض أسعار النفط، يؤدي إلى انخفاضات كبيرة في الاستثمارات الأجنبية، بما في ذلك استثمارات الدول الخليجية. وتجادل سارة يركس، وهي كبيرة باحثين في مؤسسة كارنيجي، بالقول إنه من المحتمل أن تتراجع الاستثمارات الخليجية في تونس، وقد يفسح ذلك المجال لقوى عالمية مثل الصين لسد الفجوة. وكانت الهيئة التونسية للاستثمار قد أعلنت بالفعل عن تراجع الاستثمار الأجنبي المباشر بأكثر من 14٪ في النصف الأول من 2020 وتقلص الاقتصاد بأكثر من 20٪ بنهاية الربع الثاني.
لماذا التوترات الخليجية بشأن تونس؟
أصبحت تونس تدريجياً تمثل ممراً استراتيجياً لإعادة التحالفات الجيوسياسية في حوض البحر المتوسط. ففي حين تُكثف الإمارات من جهودها لتشكيل مخرجات الحرب الليبية، فإن تركيا لا تكتفي فقط بتوسيع وجودها العسكري في ليبيا، وإنما توسع أيضاً من علاقاتها الاقتصادية والدفاعية مع تونس والجزائر، لدرجة أن الإمارات هددت بفرض عقوبات على الجزائر بسبب تعاونها مع “الجهات الضاغطة المناهضة للإمارات”.
نظرًا لتأثير حركة النهضة المتواصل على السياسة التونسية، بالإضافة إلى تنامي الاستثمار القطري على مدى العقد الماضي، قد يبدو أن تونس أكثر انسجاماً مع نفوذ الفلك القطري-التركي، كمناهض للمدار الإماراتي-السعودي، ولكن هناك العديد من الجهات السياسية المحلية الفاعلة التي تتصدى بصخب لهذا التوجه، ولعل أقوى ما يمثل هذا التوجه هو صعود عبير موسي، وهي شخصية مناهضة للثورة، وكانت مسؤولة حزبية في نظام بن علي، وتقود الآن الحزب الدستوري الحر. وتطالب عبير بحظر حركة النهضة، وغالباً ما تهاجم الأحزاب الإسلامية باعتبارها إرهابية. وعلى الرغم من احتفاظ حزبها بسبعة عشر مقعداً برلمانياً فقط من أصل 217، إلا أن حزبها يتصدر استطلاعات الرأي حالياً. ومن المرجح أن يمثل هذا انفراجاً للإماراتيين وفرصة لزرع معارضةٍ لحركة النهضة في السياسة الداخلية، وقد يتطور ذلك لتكوين معقل ضد النفوذ القطري والتركي في شمال أفريقيا.