أهمية الاعلان المقتضب من علي باقري كني نائب وزير الخارجية الإيرانية على حسابه في شبكة تويتر أن إيران قد وافقت على استئناف المفاوضات النووية في فيينا قبل نهاية شهر نوفمبر/تشرين الثاني هي أنه تقني، بمعنى أنه يضع نهاية زمنية لأكثر من خمسة أشهر قاطعت فيها طهران المفاوضات لتكثف من انتهاكاتها لبنود الاتفاق الأصلي الموقع في 2015، ولتفادي اجراءات عقابية محتملة من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة والوكالة الدولية للطاقة الذرية، وليس لأنه إعلان يؤشر بتحول في موقف إيران من المفاوضات، أو يعكس بالضرورة رغبة حقيقة بالتوصل إلى اتفاق جديد. ولا تزال مختلف المؤشرات من إيران، مثل تصعيد المطالب والضغوط ضد الولايات المتحدة، والايحاء بأن المفاوضات لن تستأنف من حيث انتهت، ترجح عدم حصول تقدم نوعي في المفاوضات في أي وقت قريب، ما يعزز من الشكوك القوية لبعض المحللين، بأن إيران، وخاصة بعد استلام الرئيس إبراهيم رئيسي لمنصبه الجديد في أغسطس/أب الماضي لا تريد اتفاقًا يلجم طموحاتها النووية العسكرية.
رد الفعل الأميركي الأولي الفاتر على الإعلان الإيراني يعزز التحليل المشكك بصدقية النوايا الإيرانية. الناطقة باسم البيت الأبيض جين ساكي قالت، “موقفنا لا يزال الامتثال (لبنود الاتفاق الاصلي) من أجل الامتثال، وسوف نترك الأمر إلى الأوروبيين ومفاوضونا تحديد ماهية الخطوات المقبلة”، في إشارة إلى أن مباحثات فيينا بين واشنطن وطهران تتم بشكل غير مباشر وعبر المفاوضين الأوروبيين. وقال ناطق باسم الخارجية الأميركية، “موقفنا واضح، هذه النافذة الزمنية لن تبق مفتوحة إلى الأبد مع استمرار إيران باتخاذ خطواتها النووية الاستفزازية، ولذلك فإننا نأمل أن يعودوا إلى فيينا للتفاوض بسرعة وبنية حسنة”.
إعلان علي باقري كني يوم الأربعاء جاء بعد انتهاء ما وصفه “حوار بناء وبالغ الجدية” أجراه مع أنريك، مورا مفاوض الاتحاد الاوروبي في بروكسل هذا الأسبوع بشأن مفاوضات فيينا. وقال المسؤول الإيراني إن تاريخ استئناف المفاوضات سوف يتم تحديده الأسبوع المقبل. وكان رئيس الوفد الأميركي في مفاوضات فيينا روبرت مالي قد قال في تحذير ضمني لإيران إن الولايات المتحدة “قد فكّرت كثيرًا” بخياراتها البديلة إذا استمرت إيران بالمماطلة في العودة إلى فيينا. وجاء تصريح مالي بعد محادثات أجراها مع مسؤولين في السعودية ودولة الامارات العربية المتحدة وقطر، وعقبها مباحثات أجراها في باريس مع ديبلوماسيين فرنسيين وألمان وبريطانيين، تركزت حول نشاطات إيران في الشرق الأوسط ومفاوضات فيينا والبدائل المتوفرة لواشنطن وحلفائها في حال تعثر المفاوضات بشكل نهائي.
وفسّرت مصادر مطلعة على التفكير الأميركي تصريحات مالي بأنها تشير إلى سلة من الضغوط الاقتصادية الجديدة والديبلوماسية تفرضها الولايات وحلفاؤها إذا لم تعد طهران إلى المفاوضات وطرحت بالفعل بعض المطالب الجديدة التي تعتبرها واشنطن تعجيزية.
تعليق إيران لمفاوضات فيينا لأكثر من خمسة أشهر دون تفسير مقنع، دفع بالولايات المتحدة وإسرائيل، وحلفاء آخرين لواشنطن، لمناقشة ما يسمى “الخيار البديل” (Plan B) للتعامل مع إيران إذا استمرت في مقاطعة المفاوضات، أو عادت إليها، ولكن للمماطلة وكسب الوقت. وزير الخارجية أنتوني بلينكن ناقش “الخيارات البديلة” لاتفاق مع إيران مع نظيره الإسرائيلي يائير لابيد، قبل أسابيع في واشنطن، وإن لم يتطرقا إلى طبيعة ومضمون هذه الخيارات علنًا، وإن كان طيف هذه الخيارات يشمل تصعيد الضغوط الاقتصادية والديبلوماسية والاجراءات العسكرية السرية ضد المنشآت النووية الإيرانية.
في الأسابيع الماضية اتسمت تصريحات الوزير بلينكن حول مفاوضات فيينا ومماطلة إيران بالإحباط والاستياء، حيث كان يردد أن “الوقت يفوت بسرعة” و “مع مرور كل يوم تستمر فيه إيران برفض التفاوض، بحسن نية، يصبح المدرج (المطلوب لإقلاع المفاوضات) أقصر فأقصر”. وبعد محادثاته مع نظيره الاسرائيلي قال بلينكن، “نحن مستعدون لاعتماد خيارات أخرى إذا لم تغير إيران من مسارها، وهذه المفاوضات مع حلفائنا هي جزء من هذه الجهود”. ولكن أي ضغوط دولية جماعية ضد إيران سوف تصطدم بمعارضة قوية من الصين، التي تشتري ما قيمته مليون برميل نفط يوميًا من إيران، على الرغم من العقوبات الأميركية.
ومنذ أشهر يعرب المسؤولون في الوكالة الدولية للطاقة الذرية عن “قلقهم العميق” لأن إيران قد اكتسبت قدرات نووية نوعية، من بينها القدرة على تطوير أجهزة طرد مركزي عالية التفوق، وتخصيب اليورانيوم بنسبة متطورة تقربها أكثر من تجميع رأس نووي عسكري. وقال مدير الوكالة رافايل غروسي، في أواخر شهر مايو/أيار، أن تخصيب إيران لليورانيوم “بنسبة 60 بالمئة هو أمر بالغ الخطورة، وحدها الدول القادرة على تصنيع القنابل النووية تخصب اليورانيوم بهذه النسبة العالية” (تصنيع الأسلحة النووية يتطلب يورانيوم مخصب بنسبة 90 بالمئة)، مشيرًا إلى أن تخصيب اليورانيوم لأغراض مدنية لا يتعدى الثلاثة بالمئة.
وتعليقًا على عرقلة إيران لنشاط المفتشين التابعين لوكالة الطاقة، قال رافايل غروسي هذا الشهر (وقبل الاعلان الإيراني عن العودة إلى فيينا) أن الأسابيع المقبلة سوف تكون “حاسمة” في تقرير استئناف أو عدم استئناف مفاوضات فيينا. وكان غروسي بذلك يشير على الأخص إلى اجتماع مجلس إدارة الوكالة في منتصف شهر نوفمبر/تشرين الثاني، الذي سينعقد على خلفية تحذيرات وتهديدات أوروبية بإدانة المماطلة الإيرانية، وبحث إمكانية إعادة فرض عقوبات اقتصادية جمدت في السابق إذا لم تلتزم إيران بتعهداتها الدولية بالسماح لفرق التفتيش بمعاينة منشآتها النووية.
وفي تعليق على اعلان نائب وزير الخارجية الإيرانية عن العودة إلى فيينا، نشره هنري روم (Henry Rome)، الخبير البارز في الشؤون الإيرانية في Eurasia Group، وهو مركز أبحاث يعنى بالأخطار السياسية، إن عودة إيران إلى المفاوضات “يجب ألا يساء تفسيرها على أنها مؤشر حول تقدم حقيقي.” ورأى الخبير أن التوقيت “يبدو كخطوة تكتيكية لالتفاف على قرار يدين إيران” يمكن أن تتخذه وكالة الطاقة النووية الدولية في اجتماعها في منتصف شهر نوفمبر/تشرين الثاني.
وأشار الباحث روم إلى إجراءات إيران السلبية الأخرى حول نواياها في فيينا، ومن بينها قرارها عدم الالتزام في آخر لحظة بالعمل ببنود آخر اتفاق حول عمليات التفتيش في منشآتها النووية، وموقفها الرافض لاستئناف المفاوضات من حيث توقفت قبل الانتخابات الرئاسية الإيرانية، حيث يعتقد أن إيران تريد إعادة فتح قضايا كان قد تم التوصل إلى تفاهم بشأنها قبل تعليق المفاوضات.
وكانت إيران قد طلبت في مطلع الشهر الجاري أن يقوم المسؤولون الأميركيون بإلغاء تجميد ودائع إيرانية بقيمة 10 مليارات دولار مودعة في مصارف أجنبية، كخطوة تظهر حسن نواياها في مفاوضات فيينا، وهو موقف ترفضه واشنطن في غياب اتفاق جديد. كما طلبت إيران في الأشهر الماضية “ضمانات” بأن الحكومة الأميركية لن تنسحب أو تعلق أي اتفاق نووي جديد مع إيران في المستقبل، وهو أمر يعتبره المسؤولون الأميركيون تعجيزيًا. وحتى نشاطات إيران الإقليمية توحي بأن المتشددين في إيران يسعون إلى تصعيد الضغوط العسكرية ضد القوات الأميركية المنتشرة في الشرق الأوسط. وبرزت مؤشرات واضحة، بعد الهجوم الصاروخي الذي تعرضت له قبل أيام القوات الأميركية المرابطة في قاعدة تنف داخل الأراضي السورية وقرب الحدود مع العراق والأردن، أن إيران كانت وراء هذا التصعيد، الذي يذكّر بالهجمات الصاروخية التي تعرضت لها القوات الأميركية في السابق في العراق.
انتهاكات إيران الجذرية لبنود اتفاق 2015، وخاصة لجهة تطوير أجهزة الطرد المركزي وتخصيب اليورانيوم بنسبة عالية و “مقلقة”، ومماطلتها الطويلة قبل الاعلان عن امكانية العودة إلى مفاوضات فيينا، وانتخاب رئيس جمهورية متشدد، وتعيين نائب وزير الخارجية علي باقري كني كبيرًا للمفاوضين الإيرانيين في فيينا، وهو المعروف بمعارضته لاتفاق 2015، كلها مؤشرات تقول، بشكل مباشر وغير مباشر، أن مفاوضات فيينا، إذا استؤنفت بالفعل، لن تؤدي إلى الاتفاق النووي الذي تنشده إدارة الرئيس بايدن مع إيران.
وفي حال وصول المفاوضات إلى طريق مسدود ونهائي في الوقت الذي تواصل فيه الولايات المتحدة تخفيض حضورها العسكري في منطقة الخليج والشرق الأوسط، وتركيز جهودها ومواردها الاستراتيجية والديبلوماسية على مواجهة الصين في منطقة المحيطين الهادئ والهندي، فإن هذا الواقع الجديد سوف يفرض على إدارة الرئيس بايدن إعادة نظر جدية بهذه الخطط، وهو أمر لا يوجد متحمسون كثر له في واشنطن، على الأقل في الوقت الحالي.