إن “الانتخابات” التي تمت هندستها بعناية للمتشدد المخضرم إبراهيم رئيسي ليكون رئيس إيران القادم لن تغير من المعادلة الجوهرية بين الولايات المتحدة وإيران في المفاوضات النووية غير المباشرة في فيينا، أو بين طهران وخصومها في الخليج العربي. لكنها تساعد على توضيح الواقع الدبلوماسي الحساس والمتوازن، وكذلك بدائل المواجهة الخطرة.
على المدى البعيد، لا يوحي انتخاب رئيسي بأخبار طيبة حول النوايا الإيرانية. ومثل مرشده، المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي، فقد رفض رئيسي المفاوضات أو أي إجراءات لتقييد برنامج تطوير الصواريخ الإيرانية، أو الأكثر أهمية من وجهات نظر عربية، شبكة الميليشيات والجماعات المتطرفة المنتشرة في المنطقة. هذه القضايا العرضية يمكن استخدامها كأدوات مساومة استراتيجية في المباحثات النووية. لكن الحكومة الإيرانية، مع تصلب قوتها من خلال هذه الجماعة المتشددة، قد تبقى مصرة على موقفها ضد تسويات حول هذه القضايا غير النووية. وهذا الموقف الإيراني ليس جديدًا أو حديث التشدد. فقد أوضحت إيران دائمًا في محادثاتها مع المسؤولين الأمريكيين أن هذه القضايا ليست على طاولة المباحثات. وكان الخلاف الوحيد بين صناع السياسة والمحللين الأمريكيين حول ما إذا كان لدى الحكومة الأمريكية النفوذ لإجبارهم على هذه التوليفة.
على الجبهة النووية، فإن المفاوضات الحالية يمكنها أن تؤتي بعض الثمار. لسوء الحظ، هي، على وجه الدقة، نتائج محدودة. تسعى واشنطن وطهران لإحياء اتفاق 2015 النووي حسب خطة العمل الشاملة المشتركة، التي انسحبت منها إدارة دونالد ترامب في عام 2018، وما يتفق عليه الطرفان يجب أن يكون على أساس سياسة الامتثال مقابل الامتثال. وما يجري التفاوض عليه بشكل جذري يكون هو ما سيشكل “الامتثال” وفقًا لشروط الاتفاقية بين الطرفين منذ ستة أعوام. والسؤال الرئيسي لإيران هو ماذا ستفعل لجعل خطواتها عكس ما قامت به نحو تطوير برنامجها النووي، والتي تجاوزت من خلالها القيود المشروطة في اتفاقية خطة العمل الشاملة المشتركة. على الجانب الأمريكي، فهي تختزله في كيفية تخفيض مجموعة من العقوبات التي تم فرضها بعد انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية خطة العمل الشاملة المشتركة، والحملة التي أعقبتها بحرب اقتصادية “حملة الضغوط القصوى” على إيران.
كلتا القضيتين حافلتان بالتوتر. يمكن أن تكون إيران راغبة في تقليل الأنشطة المحظورة بموجب بنود الاتفاقية النووي، وتحرم نفسها من مخزونات احتياطية. لكنها لا يمكن أن تتخلى عن المعرفة الهندسية والبحثية والتطويرية الجديدة، وبالتحديد فيما يتعلق بأجهزة الطرد المركزي، التي طورتها طهران خلال السنوات الثلاث الماضية.
سعت إدارة ترامب لربط العديد من العقوبات الممكنة في سياق تشريعي وإداري وإجراءات روتينية، لجعل التخلي عن هذه العقوبات أكثر صعوبة، وصنفت العديد منها كمكافحة الإرهاب أو إجراءات ضد الجريمة بدلاً من ربطها بالمفاوضات النووية. وتفيد التقارير أن إدارة الرئيس جوزيف بايدن تسعى لتخفيف كل العقوبات التي تمت إعادة فرضها، والتي كانت قد رفعت سابقًا كجزء من الاتفاق النووي، وبعضها تم فرضه منذ ذلك الوقت. لذلك، في كلتا الحالتين، هناك تطورات جديدة قد لا يكون من السهل حلها ببساطة من خلال الامتثال لوثيقة 2015.
وفوق ذلك، هناك معارضة معتبرة في كل من إيران والولايات المتحدة، وشكوك بين حلفاء الولايات المتحدة في منطقة الخليج، حول مدى أهمية إحياء الاتفاق النووي. المتشددون الإيرانيون دائمًا ما أكدوا على أنه كان اتفاق سيئة للدولة. بالنسبة للولايات المتحدة، فقد كانت الاتفاق النووي، بشكل أساسي، مقامرة زمنية، أجّلت تقدمًا بارزًا للبرنامج النووي الإيراني من 10 إلى 15 عامًا اعتمادًا على القضية المحددة. إن أهمية هذه المكاسب، التي عُلق عليها الأمل في تغيير على مستوى السياق في الفترة الانتقالية، بحيث يمكن إقناع إيران بالتخلي عن برنامجها النووي، أو أن تسمح، على الأقل، بمزيد من تمديد ذي أهمية للقيود. إن إيران أقل إقتناعًا بكثير في 2021 عما كان عليه الحال في 2015، نظرًا لأن ستة أعوام قد مرت، وأصبحت هي على الأقل قريبة من تحقيق نجاح في إنتاج الأسلحة النووية كما كانت قبل أن يصبح الاتفاق النووي ساري المفعول.
لهذه الأسباب، إن سياسة الامتثال مقابل الامتثال لا تعتبر أمرًا سهلاً. الفائدة الرئيسية هي أن كلا الطرفين يقولان إنهما يريدان الشيء نفسه، والذي، نظريًا، يجب تحقيقه بشكل مؤكد. إن التفاوض على الامتثال هو بيان موجز محدد، إلى حد ما، ولكن حساسية الأسئلة والمعارضة السياسية تجعل تحركه صعبًا. إن أكثر سيناريو يدعو للتفاؤل في إعادة إحياء الاتفاق النووي يقوم على التمسك بالنظرية المتفق عليها بشكل واسع ، الآن قد تم تأمين انتخاب رئيسي، وسيكون فريق المرشد الأعلى سعيدًا للسماح للرئيس الحالي حسن روحاني بأن يتفق مع واشنطن، وأن يتحمل هو اللوم على تسويات غير مستحبة تكون مطلوبة. ثم ستكون حكومة رئيسي قادرة على ادعاء فضل الفوائد الاقتصادية الناتجة عن تخفيف العقوبات، وتسجيل نقاط لصالحها عن طريق رفض التزحزح قيد انملة في موضوع الصواريخ ومجموعات الميليشيات الطائفية.
ويبدو أن رئيسي قد أشار بالضبط لذلك النهج في المناظرة الرئاسية الأخيرة في إيران، عندما قال إنه يحبذ العودة إلى الاتفاق النووي، ولكن فقط “بحكومة قوية” لا تساوم على المصالح الوطنية لإيران، مشيرًا بشكل واضح للصواريخ والميليشيات ومواضيع جدلية أخرى. قد تكون محادثات الولايات المتحدة–إيران، غير المباشرة تعطلت، على الرغم من الإعلان عن بعض التقدم غير المحدد في فيينا، جزئيًا، لمساعدة رئيسي في استخدام ذلك كقضية شائكة في الانتخابات. وإذا كان هذا التفسير للسياسة والاستراتيجية الإيرانية صحيحًا، أو يشكل تقدمًا، على الأقل للإطار، فإنه يصبح الآن أكثر احتمالا قبل أن يتولى رئيسي السلطة في أغسطس/آب.
يمكن للمفاوضين الإيرانيين، إذا حصلوا على الضوء الأخضر، أن يقدموا تنازلات في اثنتين من القضايا المهمة. يمكنهم قبول أن الولايات المتحدة لا تنوي رفع كل العقوبات المفروضة على إيران والإيرانيين بعد 2015. وعليهم الالتزام بالعودة إلى التعاون الكامل مع مفتشي وكالة الطاقة الذرية الدولية، وتوفير إمكانية وصولهم لكاميرات المراقبة التي أقاموها في مرافق إيرانية رئيسية.
ومع ذلك، هناك إشارات مقلقة بأن التوترات بدأت تطغى على النوايا الحسنة. لقد أصبح المسؤولون الأمريكيون والإيرانيون قساة، بشكل متزايد، في لوم بعضهم البعض لعدم التقدم. وقد أبلغ وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن نيويورك تايمز بأن إدارة بايدن لم تكن راغبة في التفاوض إلى مالانهاية، وأنه إذا استمرت إيران في أنشطتها النووية الحالية فستصبح إعادة إحياء الاتفاقية “صعبة جدًا من الناحية العملية”. وقد تعرضت القوات الأمريكية المتمركزة في سوريا والعراق، مؤخرًا، إلى هجمات متزايدة من طائرات مسيرة تابعة لجماعات شيعية، مدعومة إيرانيًا، ما استدعى ضربات جوية أمريكية على جانبي الحدود، حيث قالت ميليشيا مؤيدة لإيران إنه قتل أربعة من مقاتليها. وقد تمت مهاجمة القوات الأمريكية في شمال شرق سوريا مرة أخرى بالصواريخ، وتم الرد عليها بوابل من المدفعية.
وعلى الرغم من كل هذا، تحتاج إيران بشكل كبير إلى تخفيف العقوبات نظرًا للمتاعب الاقتصادية الحادة المستمرة وجائحة كورونا الوخيمة. تاريخيًا، إن انخفاض المشاركة في الانتخابات الرئاسية الأخيرة،، التي مُنع فيها الترشح للكل ما عدا بعض الذين تم اختيارهم بعناية، يشكل أحدث مؤشر على تنامي الاغتراب بين العديد من مواطني الدولة. وتعمل الجماعة الحاكمة على الإعداد لخلافة المرشد الأعلى، خامنئي طاعن في السن، وهو يصارع السرطان منذ سنين. وكواحد من حلفائه المقربين، يمكن أن يتم تنصيب رئيسي لخلافته أو ربما الترتيب لابن خامنئي، مجتبى، لكي يتولى الأمر بعد وفاة والده. في كل الأحوال، فإن تخفيف العقوبات والتحسن الاقتصادي سيجعل هذا الانتقال أكثر سلاسة وسهولة. لذا، فإن العودة إلى اتفاق 2015، حتى مع أخذ التحديات بعين الاعتبار، تبقى أكثر احتمالاً من عدمها.
يبدو أن الانتقال من هذه النقطة لما هو أبعد هو أمر صعب التخيل. إن تحديد القيود النووية في اتفاق 2015 قد بدأ يتلاشى سريعًا. عملية تمديد القيود ممكنة ولكنها أكثر صعوبة. بالنسبة لدول الخليج العربي، مع ذلك، لا يوجد في أي من هذه الأمور ما يبعث على الاطمئنان، نظرًا لرفض طهران المستمر بحث موضوع الصواريخ والميليشيات. وبالكاد يمكن أن تقبل طهران أن تفعل ذلك الآن، بعد حالات التوتر الشديدة مع إدارة ترامب، واستعداد طهران، الواضح، للاستمرار في دعم هجمات الميليشيات ضد القوات الأمريكية في العراق وسوريا، واستعداد إدارة بايدن للرد على ذلك.
ذكرت بعض الشخصيات البارزة في إدارة بايدن، بشكل غير علني، أن التصدي لتطوير السلاح النووي الإيراني هو الأمر المُلح الوحيد والرئيسي للأمن القومي الأمريكي في الشرق الأوسط، والذي يشكل الموقف الاستراتيجي الذي توصل إليه مفاوضو الرئيس السابق باراك أوباما. العديد من قادة الخليج العربي يردون بأن هجمات الميليشيات، المدعومة إيرانيًا، في العراق وسوريا لا تستهدف فقط القوات والمصالح الأمريكية مباشرة، ولكنها تتكامل بشكل كلي مع استراتيجية إيران التفاوضية حول القضية النووية. من خلال ذلك المنظور، فإن شبكات المقاتلين المسلحين بطائرات مسيرة وصواريخ رخيصة ودقيقة التوجيه، بعيدًا عن صواريخ إيران التقليدية أو حتى الأسلحة النووية، تشكل أقوى أوراق إيران الرابحة. ولكن على الرغم من قدرة هذه الأسلحة على القتل والتأثير، فإن الحقيقة الاستراتيجية هي أنها، بخلاف أسلحة إيران النووية الممكنة، ربما ليس لها القدرة على وضع الولايات المتحدة على طريق تصعيد صراع عسكري مباشر مع طهران. ولكن بجانب شبكة الميليشيات الإيرانية في العالم العربي، تظل هذه المقومات تشكل قلقًا رئيسيًا لحكومات الخليج العربي، وهو ما يسلط الضوء على فجوة مستمرة في إدراكات التهديد والأهداف الاستراتيجية بين واشنطن وشركائها الرئيسيين في المنطقة.