يكتنف الوجود العسكري الأمريكي في العراق الكثير من التناقضات. فقد كان شعار الرئيس دونالد ترامب الانتخابي هو تقليص عدد القوات الأمريكية في المنطقة ولكنه مع ذلك أُرغم على زيادة هذا العدد. أما العراقيون، فينقسمون إلى حد كبير على أسس طائفية حول حجم وجود الولايات المتحدة الذي يرغبون به في البلاد. من جهتها، لطالما أرادت إيران رحيل كافة القوات، الأمريكية منها وتلك التابعة لحلفاء الناتو وقوات التحالف التي تحارب تنظيم الدولة الإسلامية، باستثناء حين وصل التنظيم إلى مستوى تخطى قدرة طهران ووكلائها العراقيين على التعامل معه.
ولطالما كانت رغبة العراقيين ما بعد 2011 في استضافة الولايات المتحدة مقيّدة: حين كان تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) يُحرز تقدمًا، كانت المساعدة الأمريكية مرحبًا بها. وما إن تمّ احتواء تهديد التنظيم، أُعيدت صياغة التاريخ لتصوير دحر التنظيم على أنه انجاز منفرد حققته قوات الحشد الشعبي. وبالتالي، وأقلّه في أوساط السياسيين الشيعة، لم يعد مرحبًا بالأمريكيين من جديد. وما إن زال التهديد المباشر الذي كان يطرحه تنظيم الدولة الإسلامية، بدأت الجماعات العراقية الحليفة للإيرانيين بشنّ حملة مضايقات مطلقةً الصواريخ على منشآت أمريكية. وكانت الهجمات التي أطلقت غالبيتها الجماعات الوكيلة المدعومة من إيران مدروسةً لتبقى دون العتبة التي تستوجب أي ردّ أمريكي إلى أن تسببت ضربات صاروخية في 27 كانون الأول/ديسمبر 2019 بمقتل مقاول أمريكي وضابطي شرطة عراقيين وبجرح العديد من الموظفين الأمريكيين والعراقيين.
وانتقامًا، في 29 كانون الأول/ديسمبر، أمر ترامب بشنّ سلسلة من الضربات الجوية تستهدف منشآت القيادة وتخزين الأسلحة التابعة لكتائب حزب الله، الميليشيا العراقية الأوثق ارتباطًا بإيران. وهذا ما أطلق دورة من الأفعال والأعمال الانتقامية التي أدّت إلى هجمة موسّعة شنّها مؤيدو كتائب حزب الله على السفارة الأمريكية في بغداد، تبعها قتل الولايات المتحدة للجنرال قاسم سليماني، قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني وأبو مهدي المهندس، قائد كتائب حزب الله ونائب قائد قوات الحشد الشعبي.
وفي أعقاب هذه التحركات العسكرية، ووسط بيئة قسرية إلى حدّ كبير أرغمت معظم أعضاء البرلمان السنّة والأكراد على مقاطعة التصويت، مرّر البرلمان العراقي إجراءً طالب فيه رئيس الوزراء عادل عبد المهدي بسحب الاتفاقات التي تسمح لقوات التحالف بالتواجد في البلاد. وصحيح أن غياب النصاب ومدى قوة هذا القرار وشرعيته هو موضع جدل بين المحللين، لكن بغض النظر عن ذلك لم يعد العراق بيئة مرحبة بالولايات المتحدة وحلفائها في التحالف كما كان قبل أسابيع قليلة ماضية.
ومنذ ذلك الحين، شنّت إيران ضربات انتقامية أكثر علنيةً وأقلّ أهمية من الناحية العسكرية. وفي حال تبيّن أن هذا الرد غير قوي بما فيه الكفاية، من المرجّح أن تواصل إيران توجيه أعضاء البرلمان الشيعة من أجل السعي إلى إصدار تشريع يتعلق بسحب القوات الأمريكية. في الوقت نفسه، يمكن توقّع أن تزيد الميليشيات المختلفة وتيرة خطواتها على غرار إطلاق صواريخ أو زرع ألغام.
وخلال الفترة المقبلة، تواجه الولايات المتحدة ثلاث مسائل أمنية مهمة في العراق وشرط ثابت واحد يحدّد ما إذا كانت القوات الأمريكية أو قوات التحالف ستبقى في البلاد، وإن بقيت، كم سيبلغ عديدها وما ستكون عليه مهمتها. ويتمثل مصدر القلق الأول في الحفاظ على القدرة على مواصلة محاربة تنظيم “الدولة الإسلامية”؛ والثاني في الحفاظ على بعض القابلية للحدّ من نفوذ إيران في المنطقة؛ والثالث في ضمان أن يبقى إقليم كردستاني مستقلًا في العراق. أما الشرط الثابت، فهو ضرورة الحؤول دون وقوع إصابات خطيرة في صفوف القوات الأمريكية أو حصول هجوم يتسبب بوقوع ضحايا على قاعدة عراقية تضمّ عناصر من الولايات المتحدة أو التحالف أو على مجمع دبلوماسي أمريكي.
هذا وما من خيارات جيدة أمام الولايات المتحدة في حال طُلب منها سحب قواتها من العراق. فقد سبق أن أعلن ترامب الانتصار على “داعش”، ومن شأن مغادرة بلاده العراق أن تساعد على تحقيق وعده للناخبين بخفض انتشار القوات الأمريكية في الشرق الأوسط. لكن، ونظرًا إلى تعليقاته العلنية العدائية عقب تصويت البرلمان العراقي، قد لا يزال يرغب في إبقاء بعض القوات في البلاد من أجل “مراقبة إيران” أو حماية “النفط”. وصحيح أن لا مشكلة لديه على ما يبدو في الانسحاب من منطقة لا يتوقّع العودة إليها، كما كانت عليه الحال في شمال سوريا، لكنه قد لا يرغب في التضحية بقواعد قد يحتاج إليها مجددًا. لذا، وفي حين لا يبدو قلقًا إزاء المنشآت الصغيرة نسبيًا التي لا تزال موجودة في سوريا، طالب علنًا بتعويض عن التحسينات التي أدخلتها الولايات المتحدة على قاعدة عين الأسد الجوية التابعة للجيش العراقي في محافظة الأنبار، التي تضمّ عددًا كبيرًا من العناصر الأمريكيين والتابعين للتحالف وكانت الهدف الأول للضربة الصاروخية الانتقامية الإيرانية.
وغالبًا ما يكون الميل إلى تعريف الحدّ من نفوذ إيران في المنطقة بعبارات عقائدية أكثر منه عسكرية ملموسة. ويبدو أن إدارة ترامب تتشارك وإدارة الرئيس السابق باراك أوباما قناعةً أو أملًا في أن يساهم بشكل من الأشكال وجود الولايات المتحدة ودول حلف الناتو – إلى جانب تدريب قوات أمنية عراقية مختارة وإرشادها ومساعدتها – في التصدّي لقوات الحشد الشعبي التي تسيطر على الهيكلية الأمنية في العراق، وإحباط في الوقت نفسه مساعي إيران المستدامة لإنشاء خط تواصل أرضي عبر العراق يصل إلى سوريا ولبنان من أجل دعم حلفائها السوريين وحليفها حزب الله. ويرى الضباط في الجيش والسياسيون العراقيون الذين يخشون تغلغل وكلاء إيران المتنامي في الحكومة والأجهزة الأمنية والاقتصاد في استمرار الوجود الأمريكي السبيل الوحيد لتقويض حملة إيران المزدوجة للاستيلاء على الحكم من خلال أعمال العنف المنفذة على يد وكلائها ونفوذها الانتخابي المتنامي.
وفي الولايات المتحدة، من المرجّح أن يحول الصخب السياسي المحلي من الحزبين ردًا على إقدام ترامب على سحب دعمه من أكراد سوريا، دون تخليه عن أكراد العراق الذين عوّلوا على بعض الوجود العسكري الأمريكي منذ 1991. وعلى نحو مماثل، تضمّ المناطق السنية غرب العراق قواعد أمريكية، ولا يثق سكان تلك المناطق بحكومة بغداد ذات الأغلبية الشيعية التي كان حكمها السيئ عاملًا كبيرًا في صعود داعش. من جهتها، غالبًا ما طالبت المجتمعات المسيحية والأيزيدية القوات الأمريكية وقوات التحالف بالانتشار بشكل فعال وبتسيير دوريات في مناطقها من أجل الحؤول دون هيمنة الشيعة والميليشيات المدعومة من الشيعة.
وعليه، قد لا تتوافر سوى بعض الخيارات من أجل إبقاء قوة أمريكية في العراق. وسيتمثل أحدها في تقليص دور الوجود الأمريكي وحصره ببعثة دولية أقلّ استفزازًا، على غرار بعثة التدريب التابعة لحلف الناتو.
فمن شأن خيارات على غرار بعثة التدريب التابعة للناتو في العراق أن توفر نظريًا غطاءً قانونيًا لبعض الوجود الأمريكي المتبقي. يُذكر أن بعثة الناتو تخضع لقيادة لواء من الجنسية الكندية ولا تلقي الضوء على العناصر الأمريكية ضمنها. مع ذلك، من المرجح أن يصر حلفاء الناتو على وجود فرقة أمريكية كبيرة لحماية القوات من أجل ضمان سلامة القوات الأمريكية وغيرها المنتشرة في البلاد. هذا وكان التزام حلفاء الناتو بالبعثة في العراق هشًا منذ البداية: فالدول التي أرسلت قواتها كانت ترغب على الأرجح فقط في القيام بذلك طالما ثمة وجود أمريكي يمكنه توفير الدعم والإخلاء في حالات الطوارئ.
تجدر الملاحظة أن بعثة الناتو معلّقة في الوقت الراهن بسبب المخاطر الأمنية الكبيرة: ومن المستبعد أن تعود إلى العراق في حال عدم توافر وجود أمريكي أكبر مما تضمنه البعثة بذاتها. إن العديد من كبار قادة الناتو لا يعارضون أفعال ترامب وحذرون إزاء قضية العراق – حتى أن جمهورهم الناخب يضاهيهم على هذا الصعيد. ومن الصعب رؤية الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ورئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو والمستشارة الألمانية أنجيلا ميركل يقبلون بأي خطر سياسي وعسكري من أجل توفير غطاء لوجود أمريكي مستمر على الأرض في كافة أرجاء العراق.
وبدلًا من ذلك، قد يكون من المحتمل تعديل الهيكلية الحالية لقوة المهام المشتركة – عملية العزم الصلب (تحالف محاربة داعش الذي يضمّ 17 دولة) من أجل التقليل من أهمية الدور الأمريكي. فلدى كندا قوة عسكرية ضمن التحالف تتألف من 250 شخصًا في العراق يمكنها أن تضمّ قوات أمريكية وغيرها من التحالف. غير أن واقع كونها غطاء كنديًا للولايات المتحدة سيتطلب أن تقبل أوتاوا بخطر سياسي وعسكري كبير لبعثة لا تحظى بتأييد شعبي في كندا ولرئيس أمريكي شعبيته أقل حتى. كما أن لإيطاليا وإسبانيا والمملكة المتحدة انتشارًا ملحوظًا ضمن التحالف في العراق ولكنها ستتوخى مستوى مماثلًا من الحذر من أجل الاضطلاع بدور قيادي فخري. وتكمن المشكلة العسكرية الأساسية عند تدويل أي وجود في العدد الكبير من القوات العسكرية الضروري لحماية القوات الأمريكية من هجمات تنفذها ميليشيات عدائية وقوات متحالفة مع إيران – وهذا يتخطى قدرة أي دولة أخرى (أو حلف الناتو) على توفيره ويعني الانخراط في مخاطر مرفوضة. ولا شكّ أنه في حال وفّرت الولايات المتحدة العديد الضروري من القوات للعمل بشكل آمن في العراق، سيُعتبر التنظيم الجديد على أنه تمويه للوجود الأمريكي.
ويقودنا ذلك إلى مسار ثانٍ وقديم للأمور – وهو التأني. إن الاتفاق المبرم في العام 2014 والذي ينظم وجود التحالف الأمريكي في العراق يتضمن بندًا واقيًا – مع إرجاء لفترة عام. وخلال المناقشات مع الحكومة العراقية بشأن إنهاء هذا الاتفاق، يمكن للولايات المتحدة تقليص عدد القوات في مناطق يمكن توقّع أن تشهد هجمات عدائية. ويمكنها نقل القوات إلى مناطق تلقى فيها ترحيبًا أكبر – وبخاصةٍ في الغرب ذي الأغلبية السنّية والشمال ذي الأغلبية الكردية. ومن ثم، يمكن للولايات المتحدة إرجاء التطبيق النهائي لأي انسحاب بينما تبحث الحكومة العراقية في وضع نهائي محدد ويعيد البرلمان العراقي النظر في المسألة، مناقشًا مدى صحة التصويت الأولي وموفرًا في نهاية المطاف مستوى مناسبًا من التشويش كي يصبح الوجود المؤقت طويل المدى طالما تدعو الحاجة.
غير أن التأني لا يمكنه أن يستمر إلى ما لا نهاية، لكن الوضع الراهن لرئيس حكومة تصريف الأعمال والضعف البرلماني لقرار العراق بإنهاء الوجود الأمريكي (حيث يقول البعض إنه تصويت استشاري من دون نصاب في ظل تعرّض العديد من أعضاء البرلمان لتهديدات شخصية من ميليشيات موالية لإيران) قد يكون حجة لوجود مطوّل. وقد يدوم الوجود الأمريكي إلى حين عقد جلسة برلمانية بنصاب مكتمل ورفض البرلمان تأكيد الدعوة إلى إنهاء الوجود الأمريكي أو تغيير قراره أو ببساطة رفض اتخاذ أي خطوة إضافية، ما يُبطل بالتالي ضمنًا التصويت الاستشاري السابق.
ويتمتع مسار التحرك هذا بميزة أمنية تتمثل في أن يكون الوجود الأمريكي ضمن المناطق الأقل تهديدًا ويكون كبيرًا بما يكفي لحماية نفسه ومواصلة تدريب القوات العراقية وإرشادها وتجهيزها إلى جانب دعم الضربات الجوية الأمريكية ضد داعش كما تدعو الحاجة. وفي ظل هذا السيناريو، ستتمكن القوات الأمريكية من تنفيذ مهمتها الأساسية الرامية إلى دعم وتعزيز قوات أمنية عراقية قوية ومحترفة موالية لحكومة بغداد المنتخبة، عوضًا عن الوقوف مكتوفة الأيدي والتركيز على حماية نفسها ببساطة.
وتعني مخاطر حماية القوات التي ترافق الوجود الأمريكي أنه من المستبعد إلى حدّ كبير أن يتواجد الجنود الأمريكيون في العراق بأعداد ضئيلة أو بصفة مساعدين لأي بعثة دولية. فلا بدّ من أن يكون لها حشد تكتيكي في أي موقع.
من الواضح أن الولايات المتحدة لا يمكنها التعويل على أي بلد آخر لتوفير الأمن سواء للجيش الأمريكي أو للمنشآت الدبلوماسية التابعة للولايات المتحدة. فالحكومة العراقية – التي منعت بحزم المحتجين المدنيين المناهضين للفساد من دخول المنطقة الخضراء في تشرين الأول/أكتوبر – لم تحاول أن تمنع بشكل فوري مؤيدي كتائب حزب الله حين أطلقوا النيران على محيط مجمع السفارة الأمريكية وحاولوا اقتحامها.
لا بدّ من الإشارة أخيرًا إلى أن الوجود الأمريكي في العراق واجه تغييرات كبيرة في المهمة والهدف والاستراتيجية. كما شهد مستوى الدعم العراقي لهذه المهمة مدًا وجزرًا وأدّى الوجود العسكري الأمريكي إلى مواجهة بين الولايات المتحدة وإيران. ولطالما أعرب ترامب عن حذره إزاء التدخل العسكري المستدام في العراق وسوريا، ولكن في حال سحب جنوده من العراق، سيرغب في القيام بذلك وفق شروطه الخاصة. صحيح أنه ما من خيارات جذابة أمام الولايات المتحدة في هذا الخصوص، لكن أمامها خيارات أخرى عملية قابلة للتطبيق من أجل تحقيق أهدافها الاستراتيجية والأمنية في العراق.