منذ لحظة إعلان الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل في 13 أغسطس/آب أنهما ستطبعان العلاقات فيما بينهما، وخاصة منذ توقيعهما على اتفاقيات إبراهام، تم تسريب الكثير حول احتمال شراء أبوظبي لطائرات مقاتلة من طراز F-35 من الولايات المتحدة. قد يشير تطبيع العلاقات، في نهاية المطاف، إلى أن إسرائيل لم تعد تعتبر مثل هذه الصفقة تهديداً لتفوقها العسكري النوعي. في وسط هذا الجدل المحتدم حول الموضوع بين الخبراء والإعلاميين، والصحفيين، أعربت قطر عن اهتمامها بشراء الطائرات الأمريكية المقاتلة. في حين أشار أحد المحللين إلى أن توقيت الطلب من شأنه أن “ينسف الصفقة، ليس فقط للإماراتيين، ولكن ربما لكل شخص آخر في مجلس التعاون الخليجي”، ولكن يبدو أن الحال ليس كذلك.
في 29 أكتوبر/تشرين الأول، تم الإعلان عن وجود مفاوضات بشأن صفقة F-35 مع الإمارات، حيث أبلغ الرئيس دونالد ترامب الكونجرس بشكل غير رسمي باحتمال بيع ما يصل إلى 50 طائرة مقاتلة إلى الإمارات ، كجزء من صفقة أسلحة بقيمة 10.4 مليار دولار، يثير مثل هذا التتبع السريع لعملية بيع طائرات F-35 للإمارات تساؤلات بشأن الحوافز التي دفعت جميع الأطراف للمشاركة في الصفقة، وبالأخص الإمارات. هناك العديد من الأسباب التي قد تحول دون مضي أبوظبي قُدماً، منها تقليص ميزانيتها الدفاعية، بسبب جائحة فيروس كورونا وتراجع عائدات النفط، والمشهد السياسي المنقسم على نفسه في الولايات المتحدة، وعدم وجود حاجة ملحة لهذه القدرات.
ومع ذلك، من وجهة نظر الولايات المتحدة، فإن التوقيت منطقي للغاية. فشركات الدفاع بحاجة لتأمين مثل هذه الصفقات لاسترضاء مساهميها في سياق الركود الاقتصادي العالمي، الذي من المرجح أن يلحق خسائر فادحة بالصناعة على مدى السنوات الخمس المقبلة. كانت الطريق تبدو وعرة بشكل خاص أمام شركة لوكهيد مارتن (Lockheed Martin)، التي تعرضت لانتقادات متكررة بشأن برنامج F-35، واضطرت إلى إبطاء عمليات التسليم في عام 2020، حيث عطلت الجائحة سلسلة التوريد الخاصة بها.
كما يعكس الإعلان أيضًا طموح ترامب في تقديم “انتصارات” للجمهور الأمريكي لمساعدته في إعادة انتخابه. لقد أبلغ الكونجرس، وأعلن عن الصفقة قبل خمسة أيام من الانتخابات، وبعد يومين فقط من تقديم مشروع قانون من الحزبين في مجلس النواب في مسعى لضمان التفوق العسكري النوعي لإسرائيل في الشرق الأوسط – وهو شرط أساسي قبل وضع اللمسات الأخيرة على بيع طائرات F-35 إلى الإمارات.
قبل أسبوع من إبلاغ الكونجرس، أشارت المصادر إلى أن الهدف كان الحصول على اتفاق مبدئي بحلول اليوم الوطني لدولة الإمارات في الثاني من ديسمبر/كانون الأول، مشيرة إلى أن إدارة ترامب تدرس بحيوية كيفية المضي قدماً في الصفقة مع الحفاظ على التفوق العسكري النوعي لإسرائيل. يمكن تحقيق ذلك عن طريق بيع المزيد من الأسلحة إلى تل أبيب (فلدى رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو قائمة من الأمنيات)، وهو ما قد يفسر سبب عدم معارضة إسرائيل صفقة F-35 التي تتبلور بسرعة. بالإضافة إلى ذلك، فمن الممكن للصفقة أن تفيد الصناعات الدفاعية الإسرائيلية.
بالنسبة لدولة الإمارات، فإن حكاية طائرات F-35 تُعيد أصداء قصة سابقة مماثلة لطائرة مقاتلة أخرى من طراز رافال، والتي كان الرئيس الفرنسي وشركة داسو للطيران متفائلين بشأن بيعها إلى الإمارات بين عامي 2009 و2011. ولا تزال هذه الصفقة لم تُنفذ بعد ما يقارب عقداً من الزمان (على الرغم من أن أبوظبي ساعدت في تمويل صفقة لمصر). كما كان الحال في ذلك الوقت، فإن معظم النقاش الدائر حول بيع الطائرات المقاتلة جاء من الدولة المصدّرة وليس من الإمارات، التي بالكاد تتطرق للموضوع، عدا عن بعض الاستثناءات، مثل وزير الدولة الإماراتي للشؤون الخارجية أنور قرقاش الذي قدم مذكرة في أغسطس/آب بأن بلاده قد أعربت عن اهتمامها بشراء طائرات مقاتلة من الجيل الخامس منذ ست سنوات.
أثرت الضربة المزدوجة لجائحة فيروس كورونا، مصحوبة بعدم استقرار أسعار النفط العالمية، بشكل حاد على اقتصادات دول الخليج العربية. في يوليو/تموز، قدر صندوق النقد الدولي أن اقتصادات الشرق الأوسط الريعية يمكن أن تتقلص بنسبة 7.3٪، ولا تزال هناك حالة من الريبة بشأن تطور الجائحة تلقي بثقلها على الطلب العالمي على النفط. ومن المرجح أن تُترجم هذه التقلصات إلى تخفيضات في الإنفاق الدفاعي ومشتريات الأسلحة، ويشمل ذلك دول الخليج العربية، بناءً على الانخفاض في عدد صفقات الأسلحة المعلن عنها حتى هذا التاريخ من عام 2020. قبل الإعلان عن هذه الصفقة البالغة قيمتها 10.4 مليار دولار، كان مؤشر تتبع مبيعات الأسلحة الكبرى التابع لمنتدى تجارة الأسلحة قد أدرج ما يقرب 2.2 مليار دولار للمبيعات العسكرية الأجنبية لدول الخليج في عام 2020، وهو جزء بسيط من مبلغ 14.2 مليار دولار المسجل في عام 2019. فمن المدهش إذاً أن الإمارات قررت المضي قدماً في عملية الشراء الضخمة هذه في الوقت الذي لا يزال الكثير منها مجرد أفكار. إن إضفاء الصفة الرسمية على هذا الاتفاق الكبير في وقت قريب جداً من الانتخابات الأمريكية يمكن أن يعتبر إشارة دعم لولاية ثانية لترامب من جانب الإمارات، على الرغم من أن أبوظبي معروفة بأنها تحافظ على رهاناتها على الساحة الدولية.
تشير أحدث مشتريات الأسلحة الإماراتية أيضاً إلى أن أبوظبي قد حولت تركيزها من القوة الجوية إلى تعزيز قدراتها في مجال الأمن البحري (الدوريات البحرية والاستعداد لمعارك جوية-بحرية) بالإضافة إلى الحرب الإلكترونية وجمع المعلومات الاستخبارية. فعلى سبيل المثال، في عام 2019، اشترت الإمارات فرقاطتين من طراز Gowind-2500 من فرنسا إلى جانب صواريخ Exocet المضادة للسفن وأنظمة بحر-جو من الولايات المتحدة. وفي حين لم تتخلَّ عن تطوير القوة الجوية، فقد تحولت أبو ظبي بشكل متزايد نحو أنظمة جديدة، مثل الطائرات المسيرة المسلحة (Wing Loong-2 من الصين)، والإنتاج المحلي (فطائرة B-250 التي تم تصميمها وتطويرها في البرازيل ستكون أول طائرة عسكرية تُصنع بالكامل في الإمارات). كما قررت للتو ترقية أسطولها الحالي من الطائرات المقاتلة من الجيل الرابع: في نوفمبر/تشرين الثاني 2019، أعلنت الإمارات عن الانطلاق بعملية تحديث لطائراتها المقاتلة من طراز Dassault Aviation Mirage 2000-9 التي تم شراؤها من فرنسا في مطلع هذه الألفية، بتكلفة مقدارها 929 مليون دولار، وهو ما يشير إلى عدم وجود حاجة ملحة للمزيد من القدرات.
نظراً لهذه الاعتبارات، ما هي حوافز الإعلان عن الصفقة الآن من وجهة نظر الإمارات العربية المتحدة؟
من جانب، فإن شراء 50 مقاتلةً من الطائرات الأكثر تقدماً في العالم، قبل الذكرى الخمسين لاستقلال الإمارات، في عام 2021 ينسجم مع “عسكرة قومية” الدولة وسجلها الحافل بعمليات الاستحواذ على الأسلحة العالية التقنية لأغراض الماركات التجارية الدولية، بالإضافة إلى إرساء الاعتزاز الوطني. إن هناك حقاً اعتباراً لأبوظبي في قدرتها على الادعاء بأن الإمارات يمكن أن تصبح الدولة الأولى في الشرق الأوسط، عدا عن إسرائيل، ويمكن أن تُعتبر شريكاً عسكرياً يتمتع بالثقة والمصداقية الكافية من قبل الولايات المتحدة للسماح لها بشراء ما تريده من طائرات F-35.
وما يعزز هذا الجانب هو الخلفية الإقليمية الحالية من التوترات المتصاعدة مع تركيا وقطر. ربما تكون أبوظبي مهتمة بإظهار قدرتها على امتلاك الطائرة التي عجزت أنقرة عن الحصول عليها بسبب شرائها نظام S-400 الروسي المضاد للطائرات. أما بالنسبة للدوحة، ففي حين أن توقيت طلبها للحصول على طائرات F-35 قد يكون محاولة لتسليط الضوء على وضعها باعتبارها “حليفًا رئيسياً محتملاً من خارج الناتو” للولايات المتحدة، فمن الممكن أيضاً أن ذلك قد دفع أبوظبي -عن قصد أو غير قصد- لسبق جارتها بها. ولم ترد واشنطن رسمياً على الطلب القطري. وفي حين أسقط المسؤولون في تل أبيب هذا الاحتمال في البداية، إلا أن وزير الطاقة الإسرائيلي قال في وقت لاحق إنه لا يشك في أن القطريين يمكنهم الحصول على الطائرة “إذا أرادوا ذلك وكانوا مستعدين للدفع”.
كما يمكن فهم الإعلان من خلال ما يعنيه بالنسبة للعلاقات الأمريكية-الإماراتية. من المؤكد أن هذه الصفقة تعزز مكانة الإمارات على الساحة الدولية، ليس فقط بسبب المكانة التي يمنحها المقاتل المتقدم لأبوظبي، ولكن أيضاً السابقة التي تمثلها الصفقة في عدم وجود شروط عندما يتعلق الأمر بعلاقات الإمارات مع خصمين عالميين: روسيا والصين. إن امتلاك تركيا نظام S-400 الروسي، وتخطيط البلدين للتعاون في بناء نظام S-500 كانا السبب في عدم بيع الولايات المتحدة طائرة F-35 لأنقرة. وفي حين أن أبوظبي لم تعرب عن نيتها شراء هذا النظام من روسيا، إلا أن علاقاتها الدفاعية مع موسكو لا تقل أهمية، وأعلن البلدان في عام 2017 عن نيتهما العمل على الاشتراك في تطوير طائرة مقاتلة خفيفة من الجيل الخامس، وهذا ما دفع أحد المحللين إلى اقتراح أن عملية بيع F-35 إلى الإمارات العربية المتحدة يجب أن تخضع للتدقيق الصارم نفسه الذي خضعت له عملية البيع لتركيا، لأنها قد تمنح روسيا إمكانية الوصول إلى التكنولوجيا الأمريكية. كما أن التعاون الأخير بين الإمارات والصين في مجال الذكاء الاصطناعي وجمع البيانات لم يُثِر الكثير من الانتقادات العامة، على الرغم من كل الجهود التي يبذلها ترامب عادةً في تعليق مشاكل العالم على بكين، إلا أنه لم يطرح هذا الموضوع في سياق صفقة F-35 الإماراتية.
ومع ذلك، فقد أكد المحللون السياسيون السابقون والحاليون العاملون لدى الحكومة الأمريكية على هذه المخاوف. ويسلط تقرير أعدته خدمة أبحاث الكونجرس حول التفوق العسكري النوعي لإسرائيل ومبيعات الأسلحة الأمريكية المحتملة إلى الإمارات العربية المتحدة الضوء على خطورة “تعريض الأمن القومي للولايات المتحدة للخطر إذا أدت عملية البيع لسقوط تقنية F-35 في أيدي الصين أو روسيا أو خصوم الولايات المتحدة الآخرين مثل إيران”. إضافة إلى ذلك، يشير التقرير إلى أن دور الإمارات في الحروب في اليمن وليبيا قد أثار تدقيقاً من الكونجرس في السنوات الأخيرة، حيث أثيرت تساؤلات حول تسريبها الأسلحة إلى أطراف غير حكومية واستخدامها طائرات مقاتلة أمريكية المنشأ في ضربات جوية مميتة ضد حكومة الوفاق الوطني، المعترف بها من قبل الأمم المتحدة.
وإذا تمت الموافقة على الصفقة في نهاية المطاف من قبل الكونجرس، ومضت إلى الأمام، فإنها ستمثل أيضاً فوزاً كبيراً لاستراتيجية أبوظبي الحازمة في تأسيس دولة الإمارات العربية المتحدة كقوة رئيسية على المسرح الدولي، بحيث لا تعمل الولايات المتحدة على عرقله أعمالها. وفي حين أن واشنطن، وخاصة في ظل إدارة ترامب، غالباً ما استغلت علاقاتها الاقتصادية والاستراتيجية لدفع الدول الأخرى، بما في ذلك الحلفاء، للعمل وفقاً لمصالحها، إلا أنها تبدو أقل ميلاً للقيام بذلك في حالة أبوظبي، حتى في ظل استغلال الإمارات تعددية الأقطاب في علاقاتها الدولية إلى أقصى حد، وربما بطرق قد تشكل تحديات للمصالح الوطنية للولايات المتحدة في المنطقة على المدى الطويل.