بالطبع، انهارت الجولة الأخيرة من محادثات السلام السورية المنعقدة هذا الأسبوع في جنيف حتى قبل أن تبدأ تمامًا حافظةً البعض من خيبة الأمل. ففي الواقع لم تتّفق الأطراف المتنازعة في سوريا فعليًّا على عقد نقاشات مباشرة أو حتى على الاجتماع في غرفة واحدة. وبدلًا من ذلك، راح الوسطاء الدوليون وعلى رأسهم المبعوث الأممي الخاص إلى سوريا ستيفان دي ميستورا يجتمعون ابتداءً من 1 شباط/فبراير تارةً بمسؤولين في الحكومة السورية في مقر الأمم المتحدة في جنيف، وتارةً أخرى بممثلين عن المعارضة في الفندق الذي يقيم فيه الوفد. وأعلن دي ميستورا في 3 شباط/فبراير عن تعليق هذه العملية مشيرًا إلى أنّه لا يمكن متابعة العمل في ظلّ هذه الظروف حتى في هذا الإطار المحدود. وكان النظام السوري قد تجاهل طلب المعارضة فكّ الحكومة حصارها عن مختلف الأماكن المدنية للسماح بوصول المساعدات الإنسانية، ما أسهم بشكل مباشر في فشل المحادثات.
وتظهر رغبة القوى الدولية المعنية في النزاع، خصوصًا الولايات المتحدة، في تنمية عملية سياسية لإنهاء النزاع أكثر فأكثر، لكن لم يُبدِ أي من الفصائل السورية المسلحة والجهات الإقليمية الداعمة لها ونظام الرئيس السوري بشار الأسد على الأخص عن استعداد للالتزام بشكل مجدٍ بعملية كهذه، لامسين على ما يبدو فائدة من استمرار النزاع. ففي حين يسعى النظام إلى إيجاد حلّ عسكري لمشكلته، يأمل الثوار تعويض سلسلة من الانتكاسات الخطيرة التي واجهوها في الأشهر الأخيرة بهدف استعادة التقدم الذي أحرزوه في قسم كبير من عام 2015 وخسروه إثر هذه الانتكاسات.
ولا تزال سوريا ساحة قتال بالوكالة بين ائتلافين متخاصمين بقيادة المملكة العربية السعودية من جهة وإيران من جهة أخرى. فمنذ أن ازدادت حدة التوتر مؤخرًا بين الرياض وطهران بعد إعدام رجل الدين الشيعي السعودي المعارض نمر النمر، وما تلا ذلك من أحداث اقتحام للسفارة السعودية في إيران، أصبحت إمكانية تطور العلاقات بين الخصمين أبعد من أي وقت مضى. وفي خلال الأسابيع التي سبقت الاحتدامات الأخيرة، برزت هوامش المفاوضات السورية الدبلوماسية كفرصة ثمينة ولو مستصعبة للحوار السعودي-الإيراني، إذ كانت هذه المحادثات ستؤمّن المكان الوحيد الذي يمكن أن يلتقي فيه دبلوماسيو البلدين وجهًا لوجه بشكل منتظم ومترقّب لمناقشة مسائل حاسمة. ولو كان من المعقول أن تتجاوز الرياض وطهران فتور علاقتهما، كان هذا الظرف الأنسب لإحراز تطور كهذا مهما كان محدودًا.
ويستمر اللقاء الدبلوماسي بمشاركة ممثلين عن كل من المملكة السعودية وإيران في المحادثات المعلقة، إلا أنّ إمكانية إحراز تقدم على أي جبهة، ولا سيما في ما يتعلق بالمسألة السورية المشحونة للغاية ومستقبل الأسد، لم تعد مستصعبة فحسب بل بعيدة المنال، أقلّه في ظلّ الظرف الراهن. وبدلًا من أن تمارس كل من هاتين القوتين الإقليميتين ضغوطات على موكليها وحلفائها السوريين بهدف التوصل إلى حل سياسي، يظهر إصرارها على البحث عن مصلحة نسبية من استمرار المواجهات العسكرية على الأرض في سوريا.
وبالفعل يبدو أنّ القوى الداعمة للنظام الدكتاتوري السوري، بما فيها إيران وحلفائها الإقليميين وأهمهم روسيا، ملتزمة في السعي إلى “حلّ” عسكري للنظام، فحتى لو لم تستطع الحكومة السورية وضع حدّ كامل للنزاع عبر إعادة فرض حكم غير متنازع عليه على البلاد كلها، بإمكانها على الأقلّ السيطرة على المناطق الأهم بالنسبة إلى سياساتها الرئيسية. ويشمل ذلك تأمين ممرّ عريض يمتدّ على مساحة تبلغ ربع مساحة سوريا تقريبًا من الشمال عند الحدود اللبنانية مرورًا بدمشق وحلب إلى المناطق الساحلية في شمالي غرب سوريا حول اللاذقية. وتظهر ثقة نظام الأسد وحلفائه أكثر فأكثر في إمكانية تحقيق هذا الهدف على الأقل. أمّا التدخل العسكري الروسي في أواخر 2015 فنُظّم على اعتباره مبادرة دولية لمكافحة الإرهاب شُنّت ضدّ تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش)، إلا أنّ الأغلبية الساحقة من القوات الجوية الروسية استهدفت التجمعات الأساسية للثوار التي تدعمها المملكة العربية السعودية وشريكاها الأساسيان تركيا وقطر.
ونجح هذا التدخّل على ما يبدو في تحريك زخم الأزمة لصالح النظام خصوصًا في المناطق التي يعزم على السيطرة عليها. وكان النظام السوري والقوات الداعمة له قد خسروا في خلال معظم عام 2015 أراضٍ وأراضٍ لصالح جماعات الثوار التي تدعمها القوى الإقليمية وعلى رأسها ائتلاف “جيش الإسلام” بمساعدة الرياض وحركة “أحرار الشام” برعاية أنقرة والدوحة. وفي حين تميز الوضع على الأرض بالتغيرات الدائمة والتعقيدات، أحرزت هذه المجموعات في معظم 2015 تقدّمًا مستمرًّا في مناطق أساسية متنازع عليها بشكل واسع في البلاد على حساب النظام (وأيضًا على حساب “الدولة الإسلامية” أحيانًا).
وأتى التدخّل الروسي ليضع حدًّا لهذا المجرى ثمّ ليعكسه كما نرى الآن. ففي الأسابيع الأخيرة تحرّك الزخم بشكل ملحوظ لصالح النظام وحلفائه بما في ذلك قوات من ميليشيا “حزب الله” الشيعي اللبناني والميليشيات العراقية الشيعية و”الحرس الثوري الإيراني” التي تقاتل على الأرض. وشخّصت صحيفة “ذي إندبندنت” البريطانية باختصار الوضع الجديد هذا في حرب تتسابق أطرافها على فرض حصارات تستهدف أولًا مدنيين سوريين لا ذنب لهم كما يلي: “أشارت الأمم المتحدة إلى أنّ الحكومة السورية تحاصر 187 ألف شخص في القرى الواقعة تحت سيطرة الثوار في حين لا يحاصر هؤلاء إلا قريتين يبلغ عدد سكانهما 12 ألف شخص. وهذا هو مدى اللا توازن (الظاهر حاليًا) بين الطرفين.”
ويشار إلى أنّ الوضع في عدد من المناطق المحاصرة ملحٌّ إذ أبلغ ناشطون من المعارضة عن حالات مجاعة في بعض القرى. وتعهّد المجتمع المانح الدولي بتقديم مساعدات بمليارات الدولارات للمدنيين السوريين الجائعين الذين فقدوا كل أمل، لكن قد يصعب إيصال هذا الدعم الفائق الضرورة في حال استمرت الأطراف المتنازعة والحكومة بشكل خاص في استخدام الحصار والتجويع كتكتيك حربي أساسي.
ويبدو أنّ النظام استخدم الجولة الأخيرة من المفاوضات كمنصة لإثبات قوته العسكرية التي اكتشفها – أو استعادها – حديثًا. وسعى إلى أن يُظهر أنّ ما يهمّه هو “الحل” العسكري وليس اتفاق السلام عبر شنّ هجوم كبير في عدة مناطق رئيسية خصوصًا بالقرب من حلب في 1 شباط/فبراير مع بدء المحادثات. وذُكر أنّه مع حلول يوم الأربعاء اخترق الجيش السوري حصار قريتين أساسيتين خاضعتين لسيطرة الحكومة في محاولة لقطع الإمدادات بين المناطق التي يحتلها الثوار في حلب وجوارها والحدود التركية. وشاركت 300 ضربة جوية روسية في هذا الهجوم العنيف الذي وُصف في إحدى افتتاحيات الصحف بعمل “تخريب” دبلوماسي مخزٍ وسافر.
ويكمن موقف النظام في عدم استعداده للتفاوض مع “إرهابيين” وفي اعتباره أنّ “كلّ من يحمل رشاشًا في سوريا (خارجًا عن سيطرة الحكومة) إرهابي.” واعتبرت روسيا بدورها كلًّا من “جيش الإسلام” وحركة “أحرار الشام” منظمةً “إرهابيةً” مع أنّها وافقت على أن يشارك ممثلون عنهما في محادثات السلام على “أساس فردي”. ووافقت موسكو بذلك على أن تنضمّ تنظيمات المعارضة الرئيسية إلى المفاوضات عمليًا (“فتأكل كعكتها”) مع الاستمرار في وصفها بمجموعات إرهابية مرفوضة سياسيًا نظريًا (“فتحتفظ بالكعكة أيضًا”).
وفي الواقع أضيفت الجماعتان الإسلاميتان إلى فريق المعارضة السورية الرسمية في المفاوضات في اجتماع عُقد بوساطة سعودية بين جماعات الثوار في الرياض في بداية كانون الأول/ديسمبر 2015. ومن أكثر المسائل إشكالًا مشاركة “أحرار الشام” نظرًا لإصرارها مرات كثيرة على إحلال نظام سياسي واجتماعي في سوريا في المستقبل يكون مبنيًّا على الشريعة، أو أيضًا بسبب تاريخ تعاونها مع “جبهة النصرة” وهي فرع تنظيم “القاعدة” في سوريا – وهو السبب الأسوأ. وطالبت الولايات المتحدة أن تثبت حركة “أحرار الشام” تخليها عن كل تعاون مع “القاعدة” مبتعدة عن تشبّثها العقائدي غير المعقول بالشريعة خصوصًا مع تنوع المجتمع السوري. وفي النهاية وافقت حركة “أحرار الشام” على “البيان النهائي” للاجتماع الذي تضمّن رؤية أوسع وأكثر تساهلًا للمستقبل. فأصبحت الحركة عندئذٍ جزءًا شبه رسمي من الهيئة العليا للمفاوضات التي تشكلت في خلال الاجتماع لتتولى المهام الدبلوماسية باسم المعارضة السورية السياسية وشبه المسلحة والموحدة فرضيًا، وهذه الهيئة هي التي اجتمعت في الفندق في جنيف لإجراء هذه الجولة من المفاوضات.
وحتى قبل أن يظهر مدى زخم النظام الجديد على الأرض برزت مشكلتان على الأقل أمام الهيئة العليا للمفاوضات، أوّلهما أنّ ضرورة مواجهتها “الدولة الإسلامية” والإرهابيين الآخرين فضلًا عن النظام هاجسٌ يطاردها، وأنّ الولايات المتحدة تعطي الأولوية للمعركة ضدّ “الدولة الإسلامية”. ويحيّر ذلك المعارضة على المستويين النظري والعملي خصوصًا أنّ لـ”أحرار الشام” سوابق في التعاون مع “جبهة النصرة” أحيانًا. وهذا ما ترفضه طبعًا الولايات المتحدة وما يقلق كذلك المملكة العربية السعودية بشكل بالغ بالرغم من دعمها للمجموعة. ويتعيّن على المعارضة فسخ هذا التعاون إلى جانب مواجهتها “الدولة الإسلامية” و”جبهة النصرة” في سوريا لتضمن استمراريتها على المدى الطويل. ومع ذلك لا يمكن اعتبار أنّ هذه العملية تفسح المجال أمام النظام بأي شكل كان، إذ لم يتم اقتراح أي مقاربة شاملة لحلّ هذه المعضلة حتى الآن.
أمّا المشكلة الثانية فتكمن في أنّ “وحدات حماية الشعب” الكردية، وهي إحدى أهم جماعات المعارضة في سوريا وأنجحها وأكثرها فعالية، استُبعدت كليًا من مظلة المعارضة بسبب اعتراضات تركيا. ولم تُدعَ المجموعة إلى اجتماع المعارضة الذي عُقد في الرياض في كانون الأول/ديسمبر وما من ممثلين عنها في الهيئة العليا للمفاوضات. ففي الواقع تُقلق تركيا العلاقات الوطيدة بين “وحدات حماية الشعب” و”حزب العمال الكردستاني” الذي يخوض معركة دامية ومريرة مع أنقرة حول مستقبل المناطق ذات الأغلبية الكردية في تركيا. وتم الترويج للتدخل الجوي التركي في سوريا في وقت سابق في 2015 على أنّه حملة لمكافحة الإرهاب ضد “الدولة الإسلامية”، إلا أنّه كان يلاحق مصالحه الخاصة تمامًا كالتدخل الروسي الذي تلاه.
وألحق التسهيل السعودي والقطري لعداء تركيا لـ”حزب العمال الكردستاني” وبالتالي لـ”وحدات حماية الشعب” ضررًا هائلًا بالمعارضة السورية خصوصًا على المستوى السياسي. فعندما سنحت الفرصة على الأرض، انضمت عناصر من المعارضة العربية السورية الرئيسية مثل الجيش السوري الوطني الحر إلى “وحدات حماية الشعب” في القضاء على “الدولة الإسلامية” في شمال سوريا. وفضلًا عن ذلك نجح الأكراد في إنشاء منطقة مستقلة بحكم الواقع أطلق عليها اسم روج آفا تمتد على معظم شمال سوريا، وفي معقل حُرّر من قبضة الحكومة ونهب “الدولة الإسلامية”. أما أهم التحديات التي يواجهها الأكراد في هذه المنطقة فتصدر عن الجيش التركي والدولة التركية أكثر من نظام دمشق الدكتاتوري أو مقاتلي “الدولة الإسلامية”.
ولا يقوّض استبعاد هذه القوات التركية الناجحة للغاية من مظلة المعارضة قدرةَ الهيئة العليا للمفاوضات على تمثيل المعارضة العسكرية والسياسية الفعلية في سوريا فحسب، بل يعكس أيضًا الانقسامات العرقية التي تهدد مستقبل سوريا بصرف النظر عما قد يحدد نظامها السياسي، ويعزز هذه الانقسامات. ويجوز أن تكون الرياض قد اعتبرت عزل المجموعات التركية عن ائتلاف المعارضة خيارًا مؤسفًا لكن لا مفرّ منه نظرًا لدور تركيا المحوري وعمق معارضتها لـ”وحدات حماية الشعب”، إلا أنّ هذه النظرة تفتقر بعدًا في النظر، إذ تُضعف هذه الانقسامات المعارضة وتُفكّكها بشكل كبير حتى لو لم يكن من شأنها تعزيز قوة النظام. ويعني ذلك أنه بدلًا من أن يتسابق النظام مع جبهة موحدة، أصبح يواجه مجموعة متصدعة من القوات المتنافسة التي تختلف في عقائدها وانتماءاتها ومصالحها العملية حتى ولو كانت تنتمي كلها إلى الهيئة العليا للمفاوضات. ومع ذلك يتعين على هذه الجماعات المعارضة المنقسمة في ما بينها مواجهة المنظمات الإرهابية التي تتفشى في الثورة كالسرطان. وفي نهاية المطاف، تعجز أكثر مجموعات المعارضة العربية والكردية فعالية في سوريا عن التوحد أو حتى التعاون مع بعضها البعض بشكل كامل بسبب اعتراضات تركية تسيّرها أوضاع البلاد الداخلية.
واستنادًا إلى ما وصلت إليه الحال الآن، يواجه هدف السياسات السعودية-القطرية-التركية المشترك بتغيير النظام في سوريا مشكلة كبيرة لا بل أزمة شديدة كما يشير إليه بوضوح ازدراء الدكتاتورية الأسدية مفاوضاتَ السلام. فمنذ عامٍ واحدٍ بدا أنّ قوة النظام شارفت على الإنهاك، لكن بعد سلسلة من انعكاسات بالغة في موازين القوى ناجمة بشكل رئيسي عن التدخل الروسي، لا يَظهر النظام وداعموه واثقين من الاستمرار فحسب، بل يأملون حقًا التوصل إلى “حلّ” عسكري يُحكم قبضتهم على مناطق أساسية من البلاد في المستقبل القريب. وفي المقابل تظهر معاناة المعارضة المتصدعة على المستويين السياسي والدبلوماسي ولا تبشّر بالخير على المستوى العسكري على الأرض. وإذا ما استمرّت الحال على هذا النحو لن تبقَ أسباب قهرية كثيرة تجبر دمشق وطهران وحتى موسكو على تحمّل تسوية تضحّي باستمرارية حكم الأسد والمقربين منه، وهو ما تعتبره المعارضة شرطًا لا بدّ أن يتضمنه أي اتفاق سياسي.
ومن هذا المنطلق يجب أن تُشرف الرياض وحلفاؤها على مكاسب كُبرى لصالح الثوار على الصعيدين العسكري والدبلوماسي لتغيير هذه المعادلة. وإذا كانت واشنطن ملتزمة في التوصل إلى اتفاق سلام في سوريا بقدر ما تبدو، من مصلحتها هي الأخرى تغيير موازين القوى الحالية على الأرض. وإذا تم ذلك سيشكل السبب الوحيد الذي قد يدفع النظام وداعميه إلى البحث جديًّا في الحاجة إلى الوصول إلى نهاية متفاوَض عليها للنزاع. وفي حال لم يجد نظام الأسد وداعموه المحليون والإقليميون والدوليون حافزًا حقيقيًّا للتسوية، من شبه الأكيد أن يحافظوا على موقفهم الحالي الذي لا يَعتبر محادثات السلام أهم شأنًا بكثير من مهزلة دبلوماسية وسياسية.