في الأسابيع الأخيرة، تم نبذ لبنان من قبل العديد من دول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، وشرعت هذه الدول في مقاطعة قد تتطور لما هو أكثر من ذلك. في مطلع نوفمبر/تشرين الثاني، سحبت السعودية سفيرها من بيروت، وأمرت السفير اللبناني بمغادرة الرياض. وتلقت الشركات السعودية أوامر بوقف جميع أشكال التعاملات مع الشركات اللبنانية، وأصبحت الآن الواردات اللبنانية محظورة في المملكة. وحذت كلٌ من الإمارات العربية المتحدة والبحرين والكويت حذو السعودية في سحب وإبعاد الدبلوماسيين. لم يتم حتى الآن فرض الإجراءات الأشد، مثل تعليق التحويلات المالية من المغتربين اللبنانيين في الخليج، وحظر السفر الكامل، وسحب الاستثمار بالكامل من الاقتصاد اللبناني. ومع ذلك، من الواضح أن معظم الدول الخليجية ليست فقط غير راغبة في المساعدة في إنعاش اقتصاد الدولة اللبنانية، التي تعاني من ضائقة مالية متعثرة، وإنما تتخذ أيضًا موقفًا غير مسبوق لعزل لبنان، الأمر الذي من المرجح أن يؤدي إلى تفاقم مصائبه.
والسبب الظاهري هو سلسلة من التصريحات الاستفزازية والعدائية من قبل عدة مسؤولين لبنانيين وشخصيات بارزة استهدفت دول الخليج وسياساتها. ومع ذلك، يمكن فهم هذه الاستفزازات على أنها القشة التي قصمت ظهر البعير وليست السبب الفعلي المباشر لحملة العزلة هذه. لو أن العلاقات كانت أفضل، أو لو أدركت دول الخليج استمرار الفرص من خلال التعاطي مع لبنان، لكان من الممكن استهداف أفراد أو مجموعات محددة بالعقوبات بدلاً من استهداف البلد برمته، أو لكان من الممكن التخلص من القضية بأكملها أو الرد عليها خطابيًا. وبدلاً من ذلك، يبدو أن ردة الفعل لم تكن متناسبة مع التصريحات لأنها لم تكن مدفوعةً بشكل أساسي بالإهانات نفسها، وإنما بالظروف الكامنة وراءها، والتي قد تكون التصريحات قد سلطت الضوء عليها.
الأسباب الكامنة
بدأت معظم دول الخليج تتخلى، فعليًا، عن لبنان منذ عقد على الأقل. منذ فترة طويلة وهذه الدول غير مرتاحة للقوة السياسية الحاسمة في لبنان التي يتمتع بها حزب الله الشيعي الموالي لإيران. وقد تصاعدت هذه المخاوف بشكل مطرد مع تصاعد نفوذ إيران الإقليمي وامتداده في أعقاب الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، والتدخل الناجح لروسيا وحزب الله وإيران في الحرب الأهلية السورية، الذي بدأ عام 2015، لدعم النظام في دمشق. منذ أن انتهى الجزء الرئيسي من الصراع السوري بسقوط حلب في أيدي القوات الموالية للنظام، أصبح حزب الله يلعب دورًا إقليميًا يتجاوز وظيفته كحزب سياسي وميليشيا لبنانية. وأخذ يعمل بشكل فعال كطليعة للشبكة الإيرانية الواسعة من الميليشيات المتحالفة في الدول العربية مثل سوريا والعراق ولبنان واليمن، وما هو أبعد من ذلك مع تواجده ولعبه لدور فعال خارج الحدود اللبنانية.
بعد سنوات عديدة من الضغوط والجهود لإيجاد طرق للمناورة داخل لبنان لتحييد حزب الله أو تقييد نشاطاته وقدراته، خلصت، على ما يبدو، العديد من دول الخليج إلى استنتاج يفيد بأن العمل داخل لبنان في ظل الظروف الحالية هو قضية خاسرة. جاءت أول إشارة واضحة حول استعداد دول الخليج للانسحاب من لبنان في عام 2016، عندما قامت السعودية بتقليص مساعدات للبنان بمليارات الدولارات، وامتنعت عن تشجيع السياحة السعودية إلى لبنان، وقامت، إلى جانب جامعة الدول العربية قاطبة، بتصنيف حزب الله رسميًا كمنظمة إرهابية. ومع أنه تم في نهاية المطاف استئناف بعض المساعدات، إلا أن مستوى الدعم، الذي كانت تقدمه الرياض لحلفائها اللبنانيين، وخاصة المكونات المسلمة السنية المحيطة برئيس الوزراء السابق سعد الحريري إلى جانب بعض الجماعات المسيحية والدرزية، لا يزال محدودًا بشكل كبير. تم بعد ذلك استئناف المساعدات للبنان والتجارة معها، بشكل كبير، حتى وقت قريب، ولكن دول الخليج لم تصل إلى حد حشد نفوذها لمنع استخدام الدولة والمجتمع، التي كانت تتكفل بهما، ضد مصالحها في جميع أنحاء المنطقة.
لقد كان هذا السخط، إلى جانب موجة الإهانات الأخيرة، هو الدافع الأساسي لنبذ لبنان. ومع ذلك، فإن للسياق الإقليمي الأوسع كذلك دورًا حاسمًا. فتحوُّل اللاعبين الإقليميين على مدار الأشهر الثمانية عشر الماضية، على الأقل، في جميع أنحاء الشرق الأوسط نحو الابتعاد عن المواجهات المباشرة أو غير المباشرة وإلى الاعتماد على الدبلوماسية والسياسة والتجارة للسعي نحو تحقيق مصالحهم يساعد على تفسير التفكير الاستراتيجي الخليجي المتعلق بلبنان. في الواقع، إن وقف المساعدات المالية للدولة اللبنانية، لا سيما في زمن الضائقة الاقتصادية الشديدة، التي جلبوها لأنفسهم، يعد بمثابة العصا الدبلوماسية والتجارية المتاحة عندما لا يكون الصراع والمواجهة أمرًا مستحبًا.
العصيّ والجزرة في المناورات الإقليمية
اتخذت معظم عناصر المناورة، في فترة “التماسك والتقليص والمناورة” من قبل الجهات الفاعلة إقليميًا، شكل التواصل الدبلوماسي والتجاري. عمَّ الحوار والتقارب والترتيبات التجارية الجديدة الشرق الأوسط، الأمر الذي فاجأ، في معظم الأحيان، العديد من المحللين الذين كانوا يفترضون العداء المستعصي بين الخصوم. كان اللاعبون الإقليميون يتداولون تبادل الحوافز لإغواء بعضهم بعضًا للتخفيف من حدة التصعيد، وحتى للتعاون بأشكال مختلفة في بعض الأحيان. ومع ذلك، وكما يتضح من العزلة اللبنانية، فإن المناورات الدبلوماسية والسياسية والتجارية يمكن أن تنطوي أيضًا على العصيّ. لقد توقفت السعودية والإمارات والبحرين والكويت عن توقع أي شيء إيجابي من التعامل المباشر مع لبنان في ظل الظروف الحالية، وتشعر أن الضغط على اللبنانيين بهذه الطريقة يمكن أن يوفر نفوذًا وانفتاحات جديدة.
وهم مقتنعون، على الأقل، بأن عدم النجاح في أي من ذلك لن يشكل خسارة بالنسبة لهم. فقد تلاشى منذ زمن بعيد التعاطف التقليدي العربي والخليجي مع لبنان كمركز ثقافي وتعليمي وتجاري، والذي يستند، إلى حد كبير، على ذكريات من ستينيات وسبعينيات القرن الماضي. لا يملك الجيل الصاعد من قادة ومواطني دول الخليج العربية سوى القليل من الحنين إلى زهو بيروت الذي كان آباؤهم وأجدادهم يعتزون به في كثير من الأحيان. بالنسبة لهذا الفوج الأصغر سنًا، تبدو لبنان وكأنها على الأرجح “بالوعة” للمساعدات والاستثمارات المهدورة التي لا تنتهي لعشرات المليارات في العقد الماضي، ومصدر رئيسي لعدم الاستقرار الإقليمي وسوء الصنيع الإيراني.
علاوة على ذلك، بالمقارنة مع سوريا والعراق، يبدو أن لبنان لها أهمية إستراتيجية ثانوية في أحسن الأحوال. ليس من قبيل الصدفة أن تنفرد لبنان بمسارها تمامًا عندما بدأت دول الخليج، بقيادة الإمارات، بالانخراط مجددًا في سوريا، بحثًا عن فرص للعمل مع روسيا وتركيا والولايات المتحدة، ومن المحتمل حتى مع نظام الرئيس السوري بشار الأسد لتهميش سطوة إيران وحزب الله في سوريا. بالنسبة لهذه الدول الخليجية، تعد لبنان ذات أهمية إستراتيجية لأنها في الأساس ملحقة جغرافيًا وسياسيًا بسوريا. كما أنها كانت، حتى وقت قريب، مركزًا ماليًا للنظام السوري لخرق العقوبات وقاعدة لتفشي التهريب. إن وجود ممر عسكري أو “هلال” يخضع للسيطرة الإيرانية، ويمتد من إيران عبر العراق وسوريا إلى لبنان وساحل البحر الأبيض المتوسط، كان يشكل كابوسًا طويل الأجل للعرب السُّنة. تعتقد العديد من الحكومات العربية أن تطوير مثل هذا الممر الآمن بين إيران والبحر الأبيض المتوسط يعد هدفًا جغرافيًا-استراتيجيًا رئيسيًا لطهران. وعلى الرغم من أنه لم يتحقق بعد، إلا أنه قد تحول منذ عام 2003 من خيال بعيد المنال إلى هدف قابل للتطبيق.
سوريا ولبنان وإيران
لذلك، فإن سوريا، وهي دولة عربية ذات أهمية استراتيجية وسياسية أكبر بكثير، من وجهة النظر الحالية لمعظم دول الخليج، هي الموضوع الحقيقي للمناورة في الوقت الحاضر، إلى جانب العراق. فهم يرون أن التقدم في لبنان قد تحقق بشكل ملائم أكثر من خلال انخراطهم في سوريا لفترة طويلة. الهدف النهائي ليس فقط تهميش نفوذ إيران وحزب الله داخل سوريا، وإنما هو تشجيع النظام السوري على التحرك، بشكل مستقل، عن طهران لإعادة إرساء هيمنته داخل لبنان، وبالتالي كبح سيطرة حزب الله على البلاد. قد يبدو هذا بعيد المنال في ظل الظروف الحالية. ولكن نظرًا لتاريخ النفوذ السوري في لبنان، فإن شبكة الحلفاء والعلاقات واسعة النطاق، التي تتمتع بها دمشق في جميع أنحاء البلاد، ولهفتها المكبوتة، والتي لا يمكن إخفاؤها، لاستعادة سلطاتها السابقة (المستقلة عن الهيمنة الإيرانية) كلها تشير إلى أن هذا الأمر قد يكون ممكنًا.
في منتصف سبتمبر/أيلول، أصر حزب الله على التوافق مع حلفائه المسيحيين الموارنة في التيار الوطني الحر، بقيادة الرئيس ميشال عون، أخيرًا على تشكيل حكومة، حتى وإن لم يتم تلبية مطالب التيار الوطني الحر التي طال انتظارها للوصول إلى مستوى حق النقض في التمثيل داخل مجلس الوزراء. كان جزء كبير من مطالب حزب الله مدفوعًا بالخوف من أن السقوط الحر للبنان سيخلق فرصًا لدول عربية أخرى، أبرزها سوريا، لتبدأ بالتدخل مرة أخرى في لبنان بثمن بخس ومن وراء ظهرها. لذلك فإن الضغط على لبنان، بالنسبة لهذه الدول الخليجية، هو بمثابة ضغط مباشر على حزب الله، ومن خلاله على إيران. علاوة على ذلك، يمكن أن يساعد الضغط، على المدى الطويل، في تمهيد الطريق أمام سوريا لتصبح قوة (عربية) خارجية منافسة داخل لبنان. مرة أخرى، إذا لم يكن هذا الأمر مجديًا، فإن التفكير الخليجي الحالي يشير إلى أنهم على الأقل لن يخسروا أي شيء مهم.
اليمن وإيران
لكن الأهم من ذلك كله، هو أن تفسير توقيت عزل لبنان قد يكمن في الحرب اليمنية البعيدة، بالإضافة إلى الحوارات السعودية مع الحوثيين في عُمان ومع الإيرانيين في العراق. مرت سنوات والسعودية تبحث عن طريقة لتخليص نفسها من مستنقع اليمن. أثبت اليمنيون المتحالفون مع الرياض، والمرتبطون بحكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي، المعترف بها من قبل الأمم المتحدة، أنهم غير فاعلين نهائيًا، والمعقل الرئيسي الأخير لتحقيق نصرٍ حوثي شامل في شمال اليمن يكمن في المركز الاقتصادي الرئيسي للبلاد في مأرب، الذي يتعرض حاليًا لهجوم متواصل، ويبدو أنه معرض للسقوط في أيدي المتمردين.
على عكس الجهات الإقليمية الفاعلة، التي نأت بنفسها جميعًا عن الصراع، تواصل العديد من الجهات الفاعلة اليمنية المحلية البحث عن انتصارات في ساحة المعركة لتعزيز مواقعهم الاستراتيجية المحلية. وفي حين تسعى السعودية إلى تخليص نفسها، يرى الحوثيون – الذين يتوقعون استمرار المكاسب العسكرية – أن مواصلة الصراع تفيد مواقفهم السياسية والاستراتيجية والتفاوضية. ولذلك لم تؤتِ المحادثات في عُمان ثمارها من وجهة نظر السعودية.
ومع ذلك، ليس للرياض نفوذ على الحوثيين، ولهذا تسعى لاستخدام حوارها مع إيران في العراق لمحاولة مساعدتها في سعيها للخروج. بالنسبة للسعوديين، كانت محادثات بغداد على القدر نفسه من الإحباط، لأنهم يسعون لمناقشة القضية اليمنية بينما يركز نظراؤهم الإيرانيون بشكل كامل على استعادة العلاقات الدبلوماسية. وتستمر المحادثات ليس بسبب وجود أي أجندة مشتركة، وإنما بسبب الرغبة المشتركة في الحد من التصعيد.
لا شك أن أحد حسابات الرياض الأساسية هو أن الضغط على طهران عبر لبنان وحزب الله يشير إلى المقايضة وتبادل المنافع، ليس فقط من حيث العلاقات الدبلوماسية مقابل تخفيف الدعم الإيراني للحوثيين، وإنما أيضًا كنوع من مبادلة لبنان باليمن. المعنى الضمني لما بين السطور، في الوضع الحالي، هو أنه إذا خففت إيران الضغط على السعودية من خلال تقليص الدعم للحوثيين، فإن السعودية وحلفاءها سيخففون، أو على الأقل، لن يكثفوا ضغوطاتهم على لبنان وبالتالي على حزب الله وإيران في نهاية المطاف. تم التأكيد، بشكل كبير، من خلال الأدلة القوية، على علاقة حزب الله بدعم الحوثيين في أرض المعركة من حيث الخبرة الفنية في الاتصالات والخبرة السياسية.
ماذا إذا فشل هذا مجددًا؟
المثير للسخرية، هو أن الأمل الأفضل لخروج لبنان من هذا الضغط الخليجي، المفاجئ والمؤلم، لا يعتمد فقط على المحادثات في عُمان وبغداد، التي لا تُعد لبنان طرفًا فيها، وإنما يعتمد كذلك على ما ستؤول إليه المعركة في مأرب البعيدة. ومع ذلك، إذا فشلت حملة الضغط الخليجية هذه على لبنان، على المدى المتوسط، في تحقيق أي فوائد فيما يتعلق بلبنان أو سوريا أو إيران أو اليمن، فإنه ينبغي إعادة النظر فيها. وإن الحسابات التي تفيد بأن لبنان ليست لها أهمية استراتيجية تُذكر، وأن عودة الهيمنة السورية المحتملة على لبنان قد تفيد العالم العربي، تقوم على العديد من الفرضيات المثيرة للجدل. في هذه الحقبة من المناورات الحالية والبحث عن النفوذ، فإن هذه الخطوة، مهما كانت قاسية على لبنان، سيبقى لها منطقها المميز لدى الدول الخليجية. لكن هناك احتمال قوي بأن لا تؤتي ثمارها، حالها كحال الجهود المماثلة في الماضي.