المسؤولون الأميركيون محبطون في تعاملهم مع إيران على مختلف الجبهات. المفاوضات النووية غير المباشرة بين البلدين في فيينا متوقفة، ولم تؤد إلى أي اختراق بعد ست جولات، ووزير الخارجية أنتوني بلينكن يقول إن المفاوضات لا يمكن أن تستمر إلى ما لا نهاية، ولكنه يجدد القول أن واشنطن أظهرت حسن نواياها، ورغبتها بالعودة إلى الالتزام المشترك ببنود اتفاق 2015، وأن الكرة هي في الملعب الإيراني.
إيران تواصل تحديها لحرية الملاحة في منطقة الخليج، ووصل هذا التحدي الأسبوع الماضي إلى مهاجمة ناقلة نفط بطائرة مسيرة ما أدى إلى مقتل حارس بريطاني ومواطن روماني من أفراد طاقم السفينة ميرسر ستريت، التي تديرها شركة زودياك للملاحة الإسرائيلية. الولايات المتحدة وبريطانيا وإسرائيل حمّلوا إيران مسؤولية الهجوم، وهو اتهام رفضته إيران، وتحدث الوزير بلينكن عن “رد جماعي” قريب. ولكن بلينكن رفض ربط الهجوم على الناقلة، أو انتهاكات إيران الأخرى لحرية الملاحة في منطقة الخليج، بانتخاب الرئيس الإيراني الجديد إبراهيم رئيسي، المعروف بمواقفه المتشددة.
حسن النوايا الأميركية واجهته إيران في الأسابيع الأخيرة بانتهاكات واجراءات تصعيدية واستفزازية في أكثر من مجال، بما في ذلك تشجيع عملائها من عناصر قوات الحشد الشعبي وهي الميليشيات العراقية التي تمولها وتسيطر على بعضها إيران، بتصعيد وتيرة اعتداءاتها على القواعد العراقية التي تنتشر فيها القوات الأميركية.
ومن بين هذه الاجراءات انسحاب إيران من مفاوضات فيينا المتعثرة دون تحديد موعد لاستئنافها، على خلفية استمرار طهران بانتهاك بنود الاتفاق النووي الموقع في 2015، وخاصة لجهة تصنيع أجهزة الطرد المركزي المتطورة، والتي يحظرها الاتفاق، ومواصلة تخصيب اليورانيوم. وفي هذا السياق يشدد الإيرانيون على رفضهم لتطوير اتفاق 2015 ليشمل الترسانة الصاروخية الإيرانية، أو ربط العودة إلى الاتفاق بتغيير جذري في سلوك إيران الإقليمي. كما تطالب إيران واشنطن بتقديم ضمانات بعدم انسحاب أي رئيس أميركي في المستقبل من الاتفاقية كما فعل الرئيس السابق ترامب، وهو طلب تعجيزي.
وهناك تصعيد ملحوظ في الانتهاكات الإيرانية لحرية الملاحة في منطقة الخليج، وكان آخرها محاولة اختطاف سفينة ترفع علم بنما في خليج عمان قبل أيام من قبل جماعة مسلحة، يعتقد أنها إيرانية، وفقا لما قالته مصادر أمنية لشبكة الأنباء رويترز، ولكن العملية انتهت بالفشل. الوزير بلينكن اعترف بازدياد وتيرة الهجمات الإيرانية ضد الملاحة في منطقة الخليج في الأشهر الماضية، بما فيها استخدام الطائرات المسيّرة.
وقبل ثلاثة أسابيع كشفت وزارة العدل الأميركية أن أجهزة الاستخبارات الإيرانية خططت لاختطاف الصحفية الأميركية من أصل إيراني مسيح علي نجاد، الناشطة في مجال الدفاع عن حقوق المرأة، ونقلها إلى دولة شرق أوسطية. جاء ذلك في سياق الادعاء على 4 عملاء إيرانيين في المحكمة الفيدرالية في مانهاتن، بمدينة نيويورك.
ويعيد بعض المراقبين بدايات التصعيد الإيراني العسكري في المنطقة إلى حدثين أمنيين هامين وقعا في 2019، خلال ولاية الرئيس ترامب. الأول اسقاط الصواريخ الإيرانية لطائرة استطلاع أميركية متطورة دون طيار في يونيو/حزيران 2019 فوق مضيق هرمز. والثاني الهجوم الإيراني بواسطة المسيرات ضد منشآت النفط السعودية الضخمة في أبقيق في سبتمبر/أيلول 2019. قرار القيادتين الأميركية والسعودية عدم الرد عسكريا على هذين الهجومين، شجع طهران على التمادي في انتهاكاتها.
ومن المحتمل أن يكون التصعيد الإيراني في الأشهر الماضية مرتبطًا بسياسات ومواقف الرئيس بايدن، ومن أبرزها قراره بسحب جميع القوات الأميركية (والأطلسية) من أفغانستان قبل الذكرى العشرين لهجمات سبتمبر الإرهابية في سبتمبر/أيلول 2001، وتقليص عديد القوات الأميركية وأسلحتها في العراق والسعودية وقطر، إضافة إلى تمسك، بل اصرار الرئيس بايدن على احياء الاتفاق النووي مع إيران. يمكن أيضا إضافة إلغاء تصنيف إدارة بايدن لتنظيم الحوثيين في اليمن على أنه تنظيم إرهابي إلى هذه القائمة، وتمسك بايدن بهذا التغيير على الرغم من استمرار السلوك العدائي للحوثيين، بما في ذلك هجماتهم الصاروخية العشوائية ضد المراكز المدنية السعودية.
ويفسر الرئيس بايدن والمسؤولين الأخرين في إدارته هذه المواقف والسياسات برغبة الأوساط السياسية في واشنطن، (وهذا يشمل أيضًا الحزب الجمهوري) بضرورة تركيز الاهتمام الأميركي السياسي والديبلوماسي والعسكري على منطقة شرق آسيا للتصدي للنفوذ الاقتصادي الصيني الصاعد، ولسياسات الصين العدائية تجاه حلفاء الولايات المتحدة في المحيط الهادئ. هذا الموقف يعكس أيضًا عمق مشاعر ارهاق الطبقة السياسية في العاصمة الأميركية من كلفة وأعباء حربي أفغانستان والعراق، وما يراه العديد من المحللين الانحسار النسبي في أهمية منطقة الخليج، كأكبر منطقة جغرافية منتجة للنفط في العالم، بعد أن تحولت الولايات المتحدة إلى أكبر منتج للطاقة في العالم.
ويمكن القول إن مواقف الرئيس بايدن وقراراته المتعلقة بأفغانستان وتردده المماثل لتردد الرئيس السابق ترامب في معاقبة إيران عسكريًا، قد شجع القيادة الإيرانية على استخدام الضغوط المختلفة ضد الولايات المتحدة إن كان من خلال تصعيد الهجمات ضد الملاحة الدولية في مياه الخليج وبحر العرب، أو هجمات الميلشيات العراقية ضد العسكريين الأميركيين، أو هجمات الحوثيين ضد السعودية، واستخدام هذه الضغوط للحصول على تنازلات أميركية في مفاوضات فيينا.
حتى الآن يستطيع الإيرانيون أن يدّعوا أن سياساتهم التصعيدية هذه لم ترغمهم على دفع ثمن باهظ. ويرى الإيرانيون أن انسحاب بايدن من أفغانستان يمثل مقامرة سياسية قد تؤدي إلى ردود فعل سلبية قوية ضد الرئيس الأميركي، وخاصة إذا حاصرت قوات طالبان العاصمة الأفغانية كابول أو احتلتها. وتزامن استمرار القوات الأميركية بالانسحاب من أفغانستان، مع تقدم قوات طالبان ميدانيًا في مختلف المناطق الأفغانية، بما في ذلك حول كبريات مدن البلاد بما فيها قندهار. ويرى الإيرانيون في موقف بايدن، وتردده باتخاذ إجراءات عسكرية أقوى ضد طالبان، ضعفًا أميركيًا، يعكس الرغبة القوية بالانسحاب من أفغانستان بغض النظر عن الثمن السياسي المحتمل، وتخفيض “البروفيل” العسكري وحتى السياسي في المنطقة الممتدة من جنوب آسيا ومرورًا بالشرق الأوسط وانتهاءً بالمغرب العربي. السؤال الذي يجب أن تجيب عليه القيادة الإيرانية هو: هل سيؤدي التصعيد الإيراني إلى إرغام بايدن على إعادة النظر بسياساته في منطقة الخليج، بما فيها تخفيض “البروفيل” العسكري في المنطقة؟
عندما غزت القوات الروسية شبه جزيرة القرم في أوكرانيا في فبراير/شباط 2014، كان تقويم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين لرد الفعل الأميركي هو أنه سوف يبقى في حيز التنديد السياسي وفرض العقوبات الاقتصادية، ولن يصل إلى الرد العسكري المباشر أو غير المباشر مثل تسليح أوكرانيا بأسلحة متطورة، تشمل الصواريخ وغيرها. وأظهر الزمن صحة تقويم بوتين. آنذاك رأى محللون استراتيجيون أن تقويم بوتين للرد المحتمل من الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، كان مبنيًا على تخبط الرئيس أوباما في تعامله مع الحرب في سوريا، وتحديدًا تراجع أوباما، السافر، عن تهديده بتوجيه ضربة عسكرية لنظام الرئيس بشار الأسد بسبب استخدامه للأسلحة الكيماوية ضد المدنيين في 2013. مختلف المؤشرات تؤكد أن القيادة الإيرانية ترى في مواقف بايدن ضعفًا مماثلًا لضعف أوباما، وأنها من المحتمل أن تستغل ما تعتبره ضعف بايدن، كما استغل بوتين ما اعتبره ضعف أوباما في 2014.
يعتبر شهر أغسطس/أب الحار، شهر الكسل والاستجمام الذي يفترض أن تأخذ فيه الحياة السياسية أجازة طويلة. ولكن أغسطس/أب بين وقت وآخر يرفض هذه التسميات، ويصر على أن يكون شهر المفاجآت الموجعة والدموية. ففي أغسطس/أب 1914، بدأت الحرب العالمية الأولى. وفي أغسطس/أب 1961، بدأت روسيا بناء جدار برلين. وفي أغسطس/أب 1990، غزا العراق الكويت. لا يزال أغسطس/أب الحالي في بداياته، ولكن يجب ألا نستغرب مفاجآته المحتملة المتعلقة بإيران والولايات المتحدة وإمكانية تعديله لقواعد اللعبة بين البلدين، إن كان في أفغانستان، أو في مياه وأجواء الخليج أو في العراق واليمن، أو في قاعة المفاوضات النووية في فيينا.